-حسن تزوضى-
يعد مشروع “المدرسة العمومية الرائدة”، أو ما يعرف بمدارس الريادة، محاولة لإصلاح المنظومة التعليمية المغربية عبر الرفع من جودة التعليم في المؤسسات العمومية، حيث يستند هذا المشروع إلى تحسين التعلمات الأساس في اللغات والرياضيات، وتطوير الممارسات الصفية، وتعزيز قدرات الأطر التربوية من خلال تكوين مستمر، إضافة إلى تحسين تجهيزات المؤسسات التعليمية وتحفيز الطواقم العاملة بها، غير أن هذه الرؤية رغم وجاهتها على المستوى النظري، تطرح عدة تساؤلات على مستوى إمكانية التطبيق ومدى قدرتها على تجاوز المعيقات العميقة التي تواجه المدرسة العمومية.
يرتكز مشروع مدارس الريادة على ثلاثة محاور أساسية: التلميذ، الأستاذ، والمؤسسة، وكل محور يتضمن مقاربة تربوية تستهدف تحسين أحد جوانب المنظومة التعليمية، فعلى مستوى المتعلم، يتم التركيز على تجويد الممارسات الصفية واعتماد أساليب دعم فعالة، وهو أمر ضروري بالنظر إلى نسب التعثر المرتفعة في المواد الأساس. أما فيما يخص الأستاذ، فيسعى المشروع إلى توفير تكوين مستمر ذي جودة، ما ينسجم مع الحاجة الملحة لتطوير الكفاءات التربوية، وبالنسبة للمؤسسة، فإن تحسين البنية التحتية وتجهيز الفضاء المدرسي يمثلان ركيزة ضرورية لجعل بيئة التعلم أكثر تحفيزًا.
يعتمد المشروع “مدرسة الريادة ” على مقاربات بيداغوجية متعددة مثل التدريس وفق المستوى المناسب لمعالجة التعثرات، والتدريس وفق مقاربة الأستاذ المتخصص لاستثمار ميولات الأساتذة، والممارسات الصفية الناجعة لضمان تعلم فعّال، إضافة إلى آلية “علامة الجودة” لقياس الأداء التعليم ، هذه المقاربات تعكس توجهًا نحو تبني نماذج عالمية حديثة في التعليم، لكنها تظل رهينة بمدى قدرتها على التجذر داخل السياق المغربي، الذي تحكمه اعتبارات بنيوية وثقافية وسياسية.
يُظهر مشروع مدارس الريادة وعيًا بالإشكالات التربوية التي يعاني منها التعليم العمومي، خصوصًا في ما يتعلق بجودة التعلمات الأساسية والتكوين المستمر للأساتذة، غير أن هذا الطموح يصطدم بإكراهات كبرى، أهمها غياب ثقافة التغيير داخل المؤسسات التعليمية، إذ لا تزال الممارسات الصفية تقليدية تعتمد التلقين أكثر من التفاعل، كما أن تطبيق مقاربة المستوى المناسب يقتضي تقليص عدد المتعلمين في الأقسام، وهو أمر صعب التحقق في ظل الاكتظاظ المستمر. أما نموذج الأستاذ المتخصص فرغم وجاهته، فإنه يتطلب إعادة هيكلة شاملة للموارد البشرية، وهو ما قد يطرح مشاكل على مستوى إعادة توزيع الأساتذة وتكوينهم في مجالات جديدة.
يحتاج مشروع مدارس الريادة إلى استثمارات مالية ضخمة لتأهيل المؤسسات وتجهيزها وتوفير أدوات رقمية حديثة، فضلًا عن الرفع من جودة التكوين المستمر للأطر التربوية، لكن في ظل محدودية الميزانية المخصصة لقطاع التعليم، يطرح التساؤل حول مدى قدرة الدولة على تمويل هذا التحول الجذري دون المساس بجوانب أخرى من المنظومة، والأخطر من ذلك أن الفساد المستشري في تدبير الموارد المالية للتعليم يجعل من الصعب تحقيق أي إصلاح جوهري.
فرغم رصد ميزانيات ضخمة للمشاريع التربوية، إلا أن ضعف آليات المراقبة والمحاسبة يسمح بحدوث تجاوزات في تدبير الصفقات العمومية، حيث يتم توجيه جزء كبير من الأموال نحو مصالح شخصية بدل توجيهها إلى تحسين ظروف التعلم والبنيات التحتية.
لا يمكن فصل مشروع مدارس الريادة عن السياق السياسي الذي يحكم تدبير قطاع التعليم في المغرب، فرغم كثرة محاولات الإصلاح، إلا أن معظمها اتسم بعدم الاستمرارية نتيجة غياب رؤية واضحة وطويلة الأمد، فالتجارب السابقة أظهرت أن أي إصلاح تعليمي يظل عرضة للتراجع إذا لم يكن مدعومًا بإرادة سياسية حقيقية. كما أن تطبيق نموذج مدارس الريادة قد يواجه مقاومة من الفاعلين داخل المنظومة، خصوصًا في ظل عدم إشراك الأساتذة والفاعلين التربويين في صياغة القرار التعليمي، مما قد يؤدي إلى نوع من الرفض أو عدم التجاوب مع الإصلاحات الجديدة. يضاف إلى ذلك أن استمرار الفساد في القطاع التعليمي يجعل أي إصلاح عرضة للإجهاض، إذ تظل الأولوية في كثير من الأحيان لمصالح شبكات ريعية أكثر من التركيز على الأهداف التربوية الحقيقية.
يبدو مشروع مدارس الريادة خطوة إيجابية نحو تحسين التعليم العمومي، لكنه لا يزال في حاجة إلى مقاربة أكثر شمولية تراعي التحديات البنيوية التي تعيق تنفيذه، فنجاح أي نموذج تعليمي لا يرتبط فقط بتبني مقاربات بيداغوجية حديثة، بل يتطلب أولا إرادة سياسية حقيقية والتقاليد القرار التربوي التعليمي وارتباط بالمشروع المجتمعي الوطني ،وكذلك انجاز إصلاحات هيكلية تشمل تقليص الاكتظاظ، تحسين ظروف الأساتذة، توفير التمويل الكافي، وضمان استمرارية المشاريع الإصلاحية.
ولعل أكبر عائق أمام أي إصلاح منشور هوغياب الشفافية في تدبير الموارد المالية واستمرار الفساد الإداري والمالي يفرغ كل إصلاح من مضمونه، إذ لا يمكن تحقيق تحول حقيقي في المدرسة العمومية في ظل منظومة تديرها تستنزفها المصالح الضيقة والصفقات المشبوهة، وهكذا فتطبيق مدارس الريادة في المغرب يظل ممكنًا إذا تم تبنيه كجزء من رؤية استراتيجية طويلة الأمد، قائمة على المحاسبة والشفافية، بدل اعتباره مجرد مشروع ظرفي مرتبط بإملاءات في إطار توازنات مالية عالمية .