– عمر طويل –
في قلب وادي أحنصال، يخوض الطفل جمال، ذو الخمسة عشر عاما، مغامرة التجديف بشجاعة، مجسدا تحولا لافتا في هذه الرياضة، التي كانت يوما حكرا على الأجانب. وبفضل جهود جمعية الرياضات المائية وتعاونية أسيف للسياحة، أصبح شباب المنطقة يتصدرون المشهد من خلال برامج تدريبية مكثفة أفرزت 12 مرشدا معتمدا.
تقدم التعاونية أنشطة متنوعة تشمل رياضة التجذيف، والجولات الجبلية، والتخييم، مع التركيز على السياحة المستدامة وحماية البيئة. ورغم التحديات المتمثلة في الحاجة إلى تكوين مستمر وتعزيز البنية التحتية، يواصل وادي أحنصال ترسيخ مكانته كوجهة مغامرات ينشطها شباب محليون برؤية طموحة تجمع بين الإثارة والاستدامة.
جمال.. قائد صغير في مواجهة تيارات كبيرة
وسط هدير المياه العنيفة في وادي أحنصال، يتشبث جمال، الطفل ذو الخمسة عشر عاما، في مقدمة قارب التجديف، موجها فريقه الشاب بحماس وقوة. رغم صغر سنه، اكتسب جمال مهارات القيادة بعد عامين من شغفه بهذه الرياضة، ليصبح اليوم رمزا للطموح والإصرار.
بصوت واضح وتعليمات دقيقة، يوجه جمال رفاقه الخمسة قائلا: “يمينا أسرعوا”، بينما يقاومون التيارات المتدفقة بانسجام تام. وعلى الرغم من التيار الهادر الذي يضرب القارب بعنف، يحافظ الفريق على تماسكه. بوجوه يعلوها التركيز وأذرع متعبة لكنها ثابتة، يضربون المياه بقوة، مستجيبين لكل توجيه يصدر من قائدهم الصغير. ومع كل موجة ترتفع في وجههم، يزدادون إصرارا على المضي قدما، يدا بيد، كأنهم كتلة واحدة تتحدى قوى الطبيعة.
يحمل الفتى حلما كبيرا بأن يصبح قائدا محترفًا لفريق تجذيف معتمد، ويبدو أن هذا الحلم يتجسد يوما بعد يوم في وادي أحنصال، حيث يبرهن جمال ورفاقه أن العزيمة الصلبة تتغلب حتى على أعنف التيارات.
تحول تاريخي.. من احتكار الأجانب إلى ريادة محلية
قبل سنوات، لم تكن مشاهد كهذه مألوفة في وادي أحنصال. فقد ظلت رياضة التجديف (الرافتينغ) حكرا على مدربين أجانب، بينما كان السكان المحليون مجرد متفرجين على هذه الدينامية السياحية. لكن بفضل جهود محلية متواصلة، تغيرت المعادلة، وأصبح شباب المنطقة يتصدرون المشهد.
ولعبت جمعية الرياضات المائية التابعة لنادي جيوبارك مكون دورا رئيسيا في هذا التحول. من خلال شراكات مع إدارة المياه والغابات وفاعلين محليين ودوليين، حيث أطلقت الجمعية برامج تدريبية مكثفة لتمكين الشباب المحليين.
وفي منتصف مارس الجاري، نظمت الجمعية ورشة تطبيقية لتكوين مرشدين جدد في رياضة التجذيف، استمرت لمدة خمسة أيام (16 – 20 مارس). تلقى خلالها المشاركون تدريبا عمليا على يد خبراء معتمدين، ما أتاح للمنطقة الحصول على 12 مرشدا محليا معتمدا وطنيا ودوليا.
مصطفى أوتيلي، رئيس الجمعية ومرشد جبلي معتمد، عبر عن فخره بما تحقق قائلا: “قبل سنوات، لم يكن لدينا أي مرشد محلي معتمد. اليوم، لدينا 12 مرشدا مؤهلا، ونسعى إلى تأسيس فيدرالية وطنية لرياضة التجذيف لتنظيم هذا القطاع بشكل احترافي وتعزيز مكانة المغرب على الخارطة الدولية”.
تعاونية أسيف.. نموذج للسياحة الأصيلة والمستدامة
على الضفة الأخرى من التنمية السياحية، برزت تعاونية أسيف للسياحة كفاعل رئيسي في دعم السياحة المستدامة بوادي أحنصال. تأسست التعاونية في 9 شتنبر 2023، واتخذت اسم “أسيف” – الكلمة الأمازيغية التي تعني “الوادي” – ليعكس ارتباطها الوثيق بالأنهار والمسارات المائية.
تقدم التعاونية مجموعة متنوعة من الأنشطة التي تجمع بين المغامرة والالتزام بالمعايير البيئية. تشمل هذه الأنشطة رحلات التجذيف تحت إشراف مرشدين معتمدين، وجولات بالدراجات الجبلية لاكتشاف المناظر الطبيعية، وأنشطة التخييم في مواقع مجهزة مع توفير مبيت مريح في “ليطونط” – وهي وحدات إقامة محلية تمزج بين الراحة وتجربة العيش وسط الطبيعة.
ويوضح رشيد ابعير، رئيس التعاونية، رؤيتها قائلا: “لا نهدف فقط إلى تنظيم رحلات ممتعة، بل نعمل على تعزيز هوية المنطقة، ونشر ثقافة الضيافة المحلية، مع الالتزام بالمعايير البيئية وحماية الموارد الطبيعية.”
الرياضة في خدمة البيئة.. نحو وعي بيئي مستدام
لم تتوقف جهود الجمعية والتعاونية عند حدود الأنشطة الرياضية، بل امتدت إلى التوعية البيئية، إدراكا لأهمية الحفاظ على الموارد الطبيعية.
يوم 21 مارس، وبمناسبة اليوم العالمي للغابة، شاركت المنظمتان في معرض يسلط الضوء على الأنشطة الرياضية الصديقة للبيئة. تضمن الحدث ندوات وعروضا توعوية حول أهمية الممارسات البيئية المستدامة في قطاع السياحة الرياضية.
وأكد مصطفى أوتيلي أن جميع الأنشطة في وادي أحنصال تخضع لمعايير صارمة لحماية البيئة، قائلا: “نحن ندرك أن الطبيعة هي رأس مالنا الحقيقي، ونعمل على ضمان تناغم أنشطتنا الرياضية مع البيئة، حتى نستمر في تقديم تجربة فريدة للأجيال القادمة.”
تحديات في الأفق.. وفرص للنمو
ورغم الزخم الذي تشهده رياضة التجذيف في وادي أحنصال، إلا أن هناك تحديات تعيق تطوير هذا القطاع بشكل كامل. أبرز هذه التحديات هو التكوين المستمر، إذ يتطلب تأهيل مرشدين معتمدين سنوات من التدريب لضمان معايير السلامة والجودة. كما تشكّل البنية التحتية تحديا ملحّا، حيث تحتاج المنطقة إلى توفير معدات حديثة وإنشاء استراحات متطورة لتحسين تجربة الزوار وجعلها أكثر راحة وأمانا.
في هذا السياق، تسعى الجمعيات المحلية إلى تعزيز التعاون مع الهيئات الوطنية والدولية لتطوير برامج تدريب مستدامة وتأهيل كوادر قادرة على المنافسة عالميًا.
على الرغم من هذه التحديات، يظل وادي أحنصال نموذجا ناجحا لدمج الرياضة بالسياحة البيئية المستدامة، وبفضل جهود جمعية الرياضات المائية وتعاونية أسيف، تحول هذا الوادي من مجرد نقطة جذب للأجانب إلى وجهة مغرية يتصدر تنشيطها شباب محليون مفعمون بروح التحدي والإصرار.
وبينما تستمر هذه الدينامية، يفتح وادي أحنصال أبوابه لعشاق المغامرة الباحثين عن إثارة التجذيف وسحر الطبيعة، في تجربة لا تُنسى تجمع بين شجاعة القادة الصغار وقوة المجتمع المحلي، في قلب جبال الأطلس.