تلقينا دعوة للمشاركة في ندوة حول ’’ دورالصحافة الجهوية في تنمية ثقافة حقوق الإنسان، والتي احتضنتها قاعة با حنيني بالرباط، يوم 04 فبراير الجاري، في إطار سلسلة الندوات الشهرية لمجموعة الملاحظون ميديا. وقد شاركت ملفات تادلة إلى جانب مجموعة من المنابر الإعلامية الجهوية والهيآت الحقوقية، وتقدمت خلال الندوة بالورقة التي بين أيديكم.
– هيئة التحرير –
يبدو موضوع الإعلام وحقوق الإنسان –عموما- موضوعا مطروقا، فقد أضحى في السنوات الأخيرة أكثر المواضيع تناولا من طرف الإعلام –الصحافة المكتوبة والإلكترونية بشكل خاص-، بل أصبح مادة دسمة لمختلف الخطابات الصادرة عن المؤسسات الرسمية. ويحق للحضور التساؤل هنا: أي جديد يمكن أن تضيفه هذه الندوة؟ وما الأفكار المبتكرة التي بوسع المتدخلين طرحها حتى لا يصيب الملل المتتبع على الأقل؟
يبدو بالنظر إلى طبيعة الحضور من الحشو الحديث عن تاريخ الصحافة وتاريخ حقوق الإنسان، لأن الأمر هنا لا يتعلق بجلسة تعليمية، لكن لا بأس من الإشارة إلى أن الصحافة – المكتوبة بشكل خاص – شكلت في مراحل مهمة حقلا للصراع بين الديمقراطيين عموما والمدافعين عن حقوق الإنسان من جهة، وبين الدولة من جهة ثانية، وقد كان ينظر إليها باعتبارها وسيلة مناسبة لإحداث التأثير اللازم للتغيير (قد يكون هذا أصل العمل بالمناشير التعبوية والنداءات التي لا تزال وسيلة أثيرة إلى اليوم)، وقد كان همّ المطالبين بالديمقراطية والمدافعين عن حقوق الإنسان منصبا على الاشتغال في الصحافة المكتوبة – من هنا ربما كان ربط الصحافة بالنضال – بينما كان همّ البلانكيين ينصب بالدرجة الأولى على السيطرة على مقرات الإذاعة والتلفزيون. من هنا يمكن أن نخلص إلى فكرة أن وسائل الإعلام كان ينظر لها وفق التصنيف التالي: الصحافة المكتوبة وسيلة للتأثير (التثقيف، الإيضاح، التعبئة ..)، أما وسائل الإعلام المرئية والمسموعة فهي وسائل للتحكم والسيطرة.
وقد عرف حقل الصحافة صراعا مريرا بين قوتين، أو بين سلطتين، سلطة الرأي الحر والتنوير، وسلطة الدولة التي عملت على مدى عقود طويلة على كبح مسيرة الصحافة بشتى الوسائل، لذلك حين نسمع خطاب الدولة حول ربط الصحافة بحقوق الإنسان، أو تعزيز ثقافة حقوق الإنسان في الحقل الصحافي، يتملكنا التوجس، وهو توجس مشروع، ولا ننفك نطرح السؤال: ماذا تريد الدولة من الصحافة حين تطالبها بتعزيز حقوق الإنسان، أو في أحسن الأحوال حين تطرح نقاشا من هذا القبيل؟
ردنا الدائم هو: ليس لدى الدولة من دروس تعلمها للصحافيين.
إذن تحدثنا عن الصحافة باعتبارها حقلا للصراع، لكن لا يجب أن نغفل أنها كانت ويجب أن تبقى جرس الإنذار اليقظ والحساس تجاه كل الانتهاكات، لكن ارتباطا بموضوعنا، ما هو الدور الذي لعبته الصحافة الجهوية – إن وجد طبعا – في التعريف وتعزيز حقوق الإنسان؟ يعود الإعلان عن أول جريدة جهوية إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولنا الفخر في ملفات تادلة أن نكون تلك الجريدة، وستظهر بعدها ربما بأشهر قليلة أخوات وصديقات لها، في وقت أعلنت فيه الدولة عن فتح جراح الماضي، واستخراج الرصاص من جثث الضحايا دون أن تكشف عن من أطلقه.
وكان لملفات تادلة حينها هوس خطته في افتتاحية العدد الأول: ’’ إن ملفات تادلة تنبع من وعي المسؤولية كمنطلق، وتتجدد بمواجهة نزوة العبث كهدف. والمسؤولية إذ تتقوم بالوطنية، فهي في جانبها القانوني والأخلاقي واجب وتكليف، وبتعبير أكثر وضوحا: أمانة. وإذا كان الوطن أمانة في عنق الجميع، من مختلف المواقع، فهذه بالذات هي المهمة المركزية التي جاءت ملفات تادلة للنهوض بها‘‘. ماذا تحقق من هذا الهوس؟ هذا هو السؤال الذي يطرح الآن، وباعتقادنا يكمن الرد عليه في جواب الدولة على سؤالنا: ماذا تحقق من طي صفحة الماضي والعهود الجديدة العديدة التي ما يكاد المغرب يدخل أحدها حتى يخرج مسرعا؟
تعود جذور الصحافة الجهوية إلى صفحات الأقاليم في الجرائد الحزبية، ومن المعلوم أن تلك الجرائد كانت تعتمد مناضليها كمراسلين، وهذا مرتبط بالدرجة الأولى بالإمكانات المادية ثم من جانب آخر بما ذكرناه في البداية كون الصحافة حقل صراع، وكان لتناول مشاكل ومعاناة ساكنة الأقاليم دور هام في التعريف بقضايا حقوق الإنسان المرتبطة بالصحة والتعليم والسكن، وقبل هذا بالماء والكهرباء والبنية التحتية. سيتطور الأمر قليلا لتظهر ’’الصحف المستقلة‘‘، لكن مجمل الصحف في تناولها لقضايا الانتهاكات كانت تركز على محور الرباط الدارالبيضاء، فأصبح عدد منها – عمليا – صحفا جهوية – للعاصمتين – بغطاء وطني، لكن بروز الصحف الجهوية سيكون بمثابة تسليط ضوء كشاف على جراح مليئة بالصديد.
يعود الفضل للصحافة في تحويل قضايا محلية وجهوية إلى قضايا رأي عام وطني، وهنا لن يكفينا الوقت لطرح الأمثلة ولنتذكر مثلا أن قضية فاطمة أزهريو كان لينظر إليها باعتبارها ’’طفلة توفيت بمرض لم ينفع معه علاج‘‘، لكن الجرس العالي للمواقع الالكترونية (الجهوية) حولها إلى قضية رأي عام، ليصل الأمر إلى وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ثم قرار وزاري بإقالة مندوب إقليمي للصحة رغم ما يحيط بالقرار من تحفظ. ويطرح السؤال ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الصحافة عموما والجهوية خصوصا في نشر ثقافة حقوق الإنسان؟ وهل السؤال الضمني الذي يؤطر ندوتنا. للإجابة على هذا السؤال يجب مناقشة الأداء الإعلامي لهذه الصحافة من جانب، ومناقشة الإكراهات التي تواجهها من جانب آخر. ولكي نجمل يجب أن نتساءل: ما الذي يعيق الصحافة عن القيام بدورها في نشر ثقافة حقوق الإنسان؟ على اعتبار أنها وجدت بالأساس لتلعب هذا الدور. برأيي يجب النظر إلى الصحافة في عدة مستويات:
1) الصحافة كسلطة رقابة اجتماعية.
2) الصحافة كمؤشر للحرية والديقراطية وأداة للترافع.
3) الصحافة كوسيط.
1. فالصحافة كسلطة تعيش واقع ارتهان أو تغول جهاز الدولة بالنظر إليها كمصدر إزعاج، هنا يمكن أن ندرج المحاكمات وغلق الصحف وغيره من أدوات التضييق، لنجد ختاما أن الصحافي حتى في ما يعتبره البعض ’’جرائم النشر‘‘ وعموما في قضايا النشر، يحاكم حسب قوانين بعيدة كل البعد عن مجال اشتغاله (القانون الجنائي، قانون الإرهاب …) مع الإشارة إلى أحكام بالسجن والغلق والحجز، وصولا إلى أغرب حكم قضائي على صحافي وهو منع علي المرابط من الكتابة لمدة عشر سنوات بحكم قضائي.
2. بالنسبة للصحافة كمؤشر للحرية والديمقراطية، يجب الانتباه إلى تدقيق معين: يتم الحديث دوما – حين يتعلق الأمر بالصحافة – عن حرية التعبير، ويتجه الجميع إلى استحضار المواثيق والعهود الدولية في هذا المجال، لكننا نتجاهل أمرا هاما، أن الصحافة هي وسيلة لإيصال الرأي والخبر وما يرتبط بهما، بمعنى آخر أكثر تحديدا يجب بالضرورة تناول قضايا الصحافة من زاوية حق المواطن في المعلومة، لأننا في النهاية باعتبار الصحافة وسيلة إيصال الرأي، وأداة للترافع فسنتحدث عن حق المواطن في الاطلاع على هذا الرأي وحقه في الحصول على المعلومة. وفي هذا الصدد من الجيد تناول ولو في عجالة إكراهات الوصول إلى المعلومة.
فلنقر أن الشأن العام هو شأن خاص بمن يقرر في مصير المواطن، أو هكذا يعتبره، نحن لا نعلم كيف يتم وضع الميزانيات، ولا الفكرة أو الدردشة الأولى التي بني على أساسها مشروع ما، ربما كان التعاطي مع الشأن العام من قبل المسؤولين يتم على سبيل المزاح أو رد فعل غاض…
لو قيض لنا أن نضع كاميرات وميكروفونات حول التفاصيل الدقيقة لاتخاذ القرارات ربما كان الأمر سيكون كارثيا بالنظر لما قد يخلفه من ردود أفعال لدى الرأي العام. هذه الفكرة المتطرفة نوعا ما يمكن أن تنسحب على مختلف مجالات عمل أجهزة الدولة. هنا يمكن أن نرى أن جوهر الصراع بين المواطن والدولة، أو بتعبير ملطف بين المواطن وبين من يخطط مستقبله هو كيف اتخذ هذا الأخير قراره وكيف نفذه؟
لهذا السبب تواجه الصحافة الجهوية إكراهات أعمق لأنها أكثر حاجة إلى المعلومة، وتتعرض للمضايقات والضغوط بسبب العمل الذي تقوم به. من جانب آخر وأثناء تناولها لقضايا حقوق الإنسان، يمكن أن تواجه الصحافة الجهوية غضب سلطة أخرى، السلطة المتمثلة في القبيلة والعرف والموروث وغير ذلك، المرتبط بالموقف من قضايا معينة (زنا المحارم، الاغتصاب، زواج القاصرات …)، يمكننا أن نجمل أن الصحافة عموما والجهوية بشكل أكبر تواجه جبروت السلطة رسمية كانت أو عرفية، وهي بهذا أكثر حاجة إلى الترافع من أجل تمكينها من القيام بدورها.
3. بالنسبة للصحافة كوسيط، سنطرح إشكالا يتجلى في الدور المنوط بها. تتصاعد دوما أصوات وغالبا من طرف السلطة، تطالب الصحافة أن تلزم الحياد، لكنها في المقابل تطالبها بأن تلعب دور الوسيط، وهذان الأمران قد لا يستقيمان.
هل يمكن للصحافة أن تلعب دور الوسيط؟ بالتأكيد نعم، لكن هل يمكنها أن تلزم الحياد؟ هذا سؤال للتفكير.
من أهم محددات الوساطة هي الانحياز، الانحياز ليس تهمة وليس خطأ، لأننا لا يمكن أن نتخيل مؤسسة تقحم نفسها في صراع أو جملة مشاكل دون أن تكون معنية، إن لم تكن معنية فمن حقها أن تغفل الأمر، أو تتقاعس، أو تتهاون، أو أن تستقيل حين تطرح على نفسها سؤالا: ما دخلي بكل هذا، ولماذا علي أن أحتمل ’’صداع الرأس‘‘؟
إن مطالبات السلطة من الصحافة بالحياد خصوصا في القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، لن يكون سوى محاولتها جعل الأخيرة جهاز استعلامات ملحق، ليس دور الصحافة أن تكتفي بالإخبار بمن يطالب ومن يحتج ومن فعل؟ بل دورها دق الجرس بقوة ودون تهاون حين يتعلق الأمر بحقوق الإنسان، ودق الجرس لن يتأتي دون انحياز.
هل علينا أن نكتفي برواية السلطة؟ هل نحن أصلا ملزمون بطرح رواية سلطة تمتلك آلة إعلامية جبارة تعمل على تأبيد تحكمها؟ هل نكون منصفين حين نطرح موقفا محايدا ورواية متوازنة للسلطة (التي تنتهك الحقوق) والمواطن (الذي انتهكت حقوقه) بينما السلطة تملك التلفزيون والإذاعة ووكالة الأنباء وغيرها؟ إن الحديث عن صحافة محايدة أو صحيفة محايدة بشكل مجرد عن وضع هذه الصحافة في سياق الفضاء الإعلامي بشكل عام، سيكون معيبا وغير مجد وفوق هذا مغرضا.
لن نخجل ولن نتلطف ونحن نتحدث هنا وفي هذا الوقت بالذات عن الانحياز كفضيلة، فضلا عن كونه قيمة أمام كل انتهاك، فالحقيقة والحق والعدل و القيم والحرية والرأي… في مجتمع طبقي هي قضية صراع بين مهيمن ومهيمن عليه، بين مستغَل ومستغِل له، لذا وجب الانحياز لمن لا صوت له لأنه لا وسيلة له لإسماع صوته مقابل من يمتلك ليس فقط صناعة الرأي بل حتى إمكانية فرضه.