روبورطاج من إنجاز: زهير ماعزي.
يجمع صانعو القرار السياسي وفعاليات المجتمع المدني على أن السياحة الجبلية هي رافعة التنمية في إقليم أزيلال، تجدون ذلك في مخططات التنمية الجهوية وتقارير الاجتماعات واللقاءات. على صعيد الواقع، أية سياحة نريد ووفق اية شروط لإقليم جبلي له خاصيات ثقافية و تاريخية وطبيعية مميزة؟ هل السياحة وحدها تكفي لتنمية سكان أزيلال؟ من أجل الاقتراب من الاجوبة قمنا بزيارة لمشروع المدار السياحي لأوزود وحصلنا على فهم أحسن لقضايا التنمية في المناطق الجبلية.
على بركة الله تبتدئ الرحلة، كنا أربعة خامسنا دليلنا. انطلقنا لاكتشاف مدار سياحي جبلي في طور الإنشاء يربط بين أربعة مآوي جبلية هي آيت علي وتبنوت وتناغملت وبوحرازن، مرورا بشلال أوزود في إطار مشروع لتنمية السياحة الجبلية.
ما الذي تبقى من الملاح اليهودي والقصبة والمصنع الكولونيالي؟
عند مأوى آيت علي الموجود في اتجاه شلال أوزود على بعد دقائق من انعطافة على الطريق الرابطة بين أزيلال ومراكش، نبات الدوم يغطي مساحات واسعة من الأرض، كانت نساء المنطقة تستعمله لصنع الأواني وأشياء للزينة المنزلية وزرابي. هناك أيضا مصنع قديم من العهد الكولونيالي لتحويل الدوم، لم تبق منه اليوم إلا أشلاء آلات وأعمدة خشبية وأحجار من البيئة المحلية مرتبة بإحكام وجمالية.. الآن يسكن المصنع بعض الأهالي، وأحيلت الآلات الى التقاعد، وأصبح المصنع إسطبلا للحمير والأبقار الهزيلة.. من يصدق أن الحياة كانت تدب في عروق هذه الالات الصدئة وان حركتها كانت تنتج ضجيجا و.. ثروة.
على بعد ربع ساعة من اغرم نايت علي الأمازيغية يوجد ملاح ليهود ايت تاكلا، تركوه هو الاخر فارغا إلا من بقايا مبان ومدرسة تحيل الى تاريخ من التعايش الثقافي بين الأديان. اسر لي بعض الساكنة أنه الى الان يعود بعض اليهود لزيارة المكان، فعبر الجغرافية وبقايا العمران وبما يتذكرونه من لهجة أمازيغية يصلون يومهم بأمسهم.
لا قلق هنا.. فقط الكثير من الراحة
فجر اليوم الثاني، استيقظت عائشة باكرا لتعد لنا الفطور، كل شيء محلي وBio، ولاشيء مستورد إلا.. “نحن”. الكل أعد أمتعته والكثير من الماء وانطلقنا في اتجاه منابع اوزود، تابونوت. طريقنا الى منابع أوزود ليس سالكا، لكنه جميل وممتع لمحبي المغامرة والسياحة الجبلية، إنها فرصة لا تعوض للعودة الى حالة الطبيعة والتحرر من عبودية العمل وضجيج المدينة، لا قلق هنا فقط الكثير من الراحة. لم نتنفس الصعداء حتى سمعنا خرير المياه. إنه واد “تيسخت” الذي يصب في واد أوزود، ثم في واد العبيد، ثم في أم الربيع ليصل الأراضي الدكالية وينتهي بين يدي للا عايشة البحرية في أزمور فيرويها ويروي المحيط الأطلسي. إنها مياه ثلوج الجبال التي تذوب لتسقي سهول تادلا وتصنع الكهرباء والمغرب الذي نعرفه.
على ضفاف واد تسخت يقيم السكان بعض المشاريع الزراعية العائلية على الطريقة التقليدية، طماطم زيتون سفرجل خوخ برقوق وغيرها من الخضراوات والفواكه التي تشكل ثروة في هذا الشرط رغم انها تجعلهم في حالة استنفار دائم مع الحلوف (الخنزير البري) الذي غالبا ما يتلف مزروعاتهم، لذلك شباب تسخت غالبا ما يرعى الغنم أو يشتغل في الزراعة نهارا ويحرس الحقول مساء.
منابع أوزود.. أحيانا تتحول نعمة السياحة الى نقمة
منابع أوزود هي حوالي واحد وعشرون عينا طبيعية حولها مقاه شعبية تعد الشاي والطواجين اللذيذة. الناس هنا بمهارات عديدة، فهم يتحولون بمرونة من مزارع الى مربي ماشية الى بائع للعسل فمسير لمقهى شعبي، إنها مقاولات جماعاتية مسيرة بطريقة عائلية غالبا. كذلك الامر بالنسبة لسي علي صاحب المأوى الجبلي، وهو نموذج لمقاول عصامي نجح في تدبير مرحلة ما بعد التقاعد بنجاح. إنه يخطط الان لمشروع تسلق الجبال alpinisme في صخور تابنوت واستدعاء رفاقه القدامى في الجيش المغربي في تادلة للعمل معه.
بمجرد وصولنا حصل اشتباك كلامي بين دليلنا كريم وحارس المنابع حول سماحه للزوار والأطفال بالسباحة في مياه العيون التي يستعملها الأهالي للشرب والزراعة، قبل أن يتطوع لجمع قمامات السياح المغاربة الذين يسميهم les tous risques عوض les touristes.
كريم لم يكف طوال الوقت عن ادانة تصرفات الزوار وسعي السكان المحليين للربح السريع على حساب الاستغلال المفرط لموارد الطبيعية، يذم غزو الاسمنت وأسلاك الكهرباء ودخان السيارات للمنطقة ومناطق كانت حتى عهد قريب مساكن للقرود والفهود. المرجو الانتباه هنا يا سادة والتقاط الاشارة. ومن لم يتمكن عليه اعادة قراءة الفقرة قبر المرور للتالي.
ما يظنه الاخرون تنمية قد يكون وبالا على المجتمعات المحلية في المناطق الجبلية، فأحيانا كثيرة تأتي الطرقات ومشاريع التجهيز والكهربة والواد الحار وتكبير التجمعات السكنية بنتائج عكسية على الساكنة فتسلبهم تعدد المهارات وتقضي على تنوع الأنظمة البيولوجية الهشة والتي تعد الثروة الحقيقية. باختصار شديد، لا يمكن التفكير في تنمية الجبال بعقلية السهول ومن العبث جعل أوزود كالدار البيضاء.
تناغملت.. أربعة أسرار لأقدم تجمع بشري معروف في المنطقة
صباح اليوم الثالث، انطلقنا في رحلتنا لرؤية لقاء وادي اوزود مع وادي العبيد القادم من بحيرة بين الويدان، ونقطة الالتقاء هذه ليست متاحة للجميع، بل هي جزاء للمغامرين الصابرين، وجزاء صبرهم الاستمتاع بمناظر غابات الزيتون وممارسة رياضات السباحة وصيد الأسماك واكتشاف المغارات.
هناك الآن من اختار تقطيع الفواكه وهناك من يشرب من عين طبيعية وهناك من يتسلق الأشجار وهناك من اختار أن يمدد جسده تحت القصب لعله يرتاح قبل أن نصل الى تناغملت.
ليست هذه أول مرة أزور فيها تناغملت وبالتأكيد ما دام في العمر بقية فهي لن تكون الأخيرة، ففيها سحر متجدد، أنها امرأة تجيد الإغواء، تكشف محاسنها بتدلل وعن أسرارها بصعوبة. أول سر هو كونها زاوية قديمة ومدرسة دينية تخرج منها العديد من حفظة كتاب الله وأئمة المساجد في اقليم ازيلال بأكمله، وكانت تحتوي مخطوطات يدوية لأهم كتب الفقه والعلوم والفلسفة المعروفة، لكن أغلب هذه الكنوز نال منها غدر الزمان وتهميش المكان ولامبالاة السكان.
ثاني الأسرار هو مأوى السيد هشام، شاب اعتمد على مواد طبيعية محلية لعلها تخفف من أثر الغزو الإسمنتي، فسقف المأوى مصنوع من الصفصاف والعرعار والقصب، ويطل على منظر بانورامي جميل، والجدران الخارجية مطلية بخليط الاسمنت والتبن. هشام موزع بين المأوى الجبلي وبين محل تجاري في أوزود فمن النادر هنا الاعتماد على نشاط اقتصادي واحد.
لا يمكن أن تمر من تناغملت دون أن تمر على مقهى (با الطاهر)، رجل طيب ودود، إياك أن تستسلم لدعوته الى داخل المقهى، بل عليك الاصرار على الجلوس في الخارج حتى تكون أمامك لوحة فنية مكونة من جبل وغابة وواد، لكنها لوحة فنية ناطقة متحركة، ففيها خرير المياه وزقزقة عصافير، وقد يباغتك قرد (زعطوط) يبحث عن شيء ليسرقه أو يتسلق أسلاك الكهرباء بكل سهولة. لا تنس ان تطلب من (با الطاهر) براد شاي بالزعتر المحلي، واستمتع بالسر الثالث.
رابع الأسرار وليس آخرها هو حمام بلدي يدار بطريقة جماعاتية وفق أعراف تمتد لعشرات السنين، حيث يتناوب على الاهتمام به وتسخينه أسر تناغملت ومن يتخلف عليه أن يقوم بإطعام القبيلة بأكملها، لكن هذه العقوبة ثم تعويضها بأخرى نظرا لصعوبتها مع ارتفاع عدد السكان. هذا الحمام هو ما نحتاجه بعد رحلة اليوم الثالث.
بوحرازن.. سمر على ضوء القمر
بين تناغملت وبوحرازن مجموعة من الجبال، على رأسها خيط رفيع يميزها عن السماء ” la Crête “، ذلك هو طريقنا غير السالك، المليء بالغابات والصخور والخنزير البري الذي يتلف المزروعات ويحفر بحثا عن جذور النباتات والنمل.
الزقوم يستعمر المنطقة، انه نبات قديم جدا وأحد انواع l’euphorbe الخاص بجهة تادلا أزيلال. وهذا النبات يفرز مادة سمية بيضاء قد تسبب العمى في حالة اتصالها بالعين، وهو ما أوحى للساكنة المحلية بحيلة للتخلص من الحلوف، حيث يتم طرده للأراضي التي يكثر فيها الزقوم ودفعه للاصطدام به وبإصابته بالعمى وبالتالي يسهل القضاء عليه.
يستعمل الزقوم أيضا كغذاء للنحل الذي يصنع منه عسلا لذيذا ومفيدا. مضيفنا سي ادريس حرزني يمتلك مزرعة للنحل في حديقة مأواه الجبلي ويعرف الكثير من أسراره، لذلك تجده دائما من المرفقات الضرورية بصينية الشاي بالعشوب الذي يصنعه سي ادريس ببراعة تحت الدالية. إنها أنسب لحظة للاستراحة بعد طول الرحلة.
حول المأوى العديد من الأنشطة التي يمكن القيام بها، من استكشاف للمنطقة وجولة بالدراجات الهوائية، لكن لا شيء يضاهي السمر الليلي وحفلة الشواء في حديقة المأوى الذي ينشطه بإتقان وإمتاع كبيرين السي حرزني، وهو الرجل اللذي اختار هجرة عكسية من المدينة الى البادية الأصل.
تنتهي الحكاية هنا لتبدأ أخرى لأناس يناضلون لتنمية مداخيلهم واستثمار المؤهلات المحلية في السياحة الجبلية، لينتهي القول إلى طلب سياحة جبلية تضامنية متناغمة مع الطبيعة، ومستثمرة للثرات المادي واللامادي للمنطقة، ودون الإضرار بموارد هذا الوسط الحساس أو بتنوعه البيولوجي، مع ضرورة تنويع نشاطات السكان الاقتصادية لتحقيق التنمية المنشودة.