عسو أوبسلام القائد العسكري والسياسي المفاوض: صفحة خالدة من تاريخ المقاومة.


– يوسف الحلوي –


لشدما أصاب “جرمان عياش ” حين قرر بأن تاريخ مقاومة المغاربة للغزاة ليس يضاهيه تاريخ في العالم كله ، و لا يسع من يطلع على هذا التاريخ الغني سوى أن يضم صوته إلى صوت عياش ، فحين تطالع صفحاته تتملكك الدهشة وأنت تكتشف تغلغل مقاومة المحتل في كل النفوس و الأوساط ، لا فرق بين غنيها وفقيرها ، أو بين عربها وأمازيغها.

 في المدن كما البوادي وبين الرجال كما النساء كان انخراط هذه الأمة في مدافعة الغزاة مذهلا، وعلى قدر شراسة الهجمة الاستعمارية كان رد الفعل قويا شرسا على جميع الأصعدة. ابتدع المغاربة أساليب خاصة في القتال تعوض عن نقص العتاد والرجال ، وبرز أدب خاص بالمقاومة كما انبرى بالمساجد والزوايا علماء ومصلحون لرد الهجمة الفكرية والثقافية على أعقابها وعلى كل ثغر حاول العدو النفاذ من خلاله إلى المغرب ، وقف رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه لبذل الروح رخيصة في سبيل الدين والوطن ، ومن أولئك الأفذاذ عسو أوبسلام زعيم قبائل آيت عطا الذي ضرب أروع الأمثلة في مضمار التضحية والفداء.

والذي أود الإشارة إليه في سياق الحديث عن هذا البطل المغوار أن الكثير من جوانب شخصيته ما يزال مجهولا لدى عامة الرواة والمؤرخين، وأن تراثا شفهيا ضخما يتداوله أبناء قبائل آيت عطا لمَّا يعرف طريقه إلى التدوين بعد، من شأنه أن ينير تلك العتمة -التي تخفي حقائق كثيرة في حياة الرجل -ويجلو غوامضها .

ولد عسو أوبسلام سنة 1890م بقصر “تاغيا “جنوب تنغير في الفترة التي أنشئ فيها حلف ” تافراوت نايت عطا ” الذي جعل من أولوياته الدفاع عن قبائل آيت عطا ، وقد كان في بداياته تاجرا إلا أن اضطلاع والده بمهمة تسيير شؤون قبيلته فتح عينيه مبكرا على المشاكل التي كانت تحدث يومها بين القبائل وكذا النزاعات التي تقع بين أبناء القبيلة الواحدة، كل ذلك صقل مواهب عسو وجعله على دراية بما يدور حوله، وأكسبه قدرة كبيرة على التواصل مع الناس وإقناعهم ولم يكن ذلك بالأمر الهين ، لكن عزيمته ألانت له الحديد وسرعان ما صار نافذ الكلمة في قبيلته، وفي عام 1919عين شيخا على قبيلة ” إيملشان”.

كانت أصداء المعارك التي تدور في الجنوب ضد ” أحمد الهيبة ” وأصحابه تصل إلى آيت عطا وبات تقدم الكلاوي مقلقا ، كما اتضح أن الكلاوي مدعوما بالفرنسيين قد بيت النية لاحتلال الأطلس خاصة بعد تصفية مقاومة “أحمد الهيبة ” ورجاله، كل هذه العوامل دفعت قبائل آيت عطا إلى الإعداد للمواجهة ، وفي مثل هذه الظروف الحرجة من حياة الأمم عادة ما تبرز قيادات فذة تصنعها التجارب المريرة، وكذلك كان شأن” أوبسلام ” فقد التف حوله العطاويون على اختلاف مشاربهم ومن ثم عين في منصب ” أمغار نو أفلا” وهو بمثابة منصب القائد العام في شؤون السلم والحرب ودخلت تحت لوائه آيت اخباش ، وآيتا عزى ، و آيت أحليم ، و آيت ولال وغيرها.

 كان أوبسلام فارسا مغوارا قوي الإرادة عالي الهمة شديد التدين كما وصفه القبطان “مون دسافاس” حازما معتدا بنفسه كما قال عنه المؤرخ “هنري تماندو “، وكلها صفات جمعت حوله قلوب الناس ، كانت وحدة القبائل العطاوية لوحدها ضربة مؤلمة للمشروع الاستعماري الذي بنى خططه على تفتيت القبائل وتشتيت جهود أبنائها وشراء الذمم وخلق النزاعات، ومع تقدم القوات الفرنسية واحتلالها لغرب الأطلس الكبير ومناطق أخرى بالأطلس الصغير انضمت قبائل آيت مورغاد و آيت حمو للمقاومة واحتدت المواجهة وحاولت السلطات الاستعمارية استمالة “عسو” لتشتيت القبائل فأبى وأصر على خيار المقاومة.

اختار عسو جبل “صاغرو ” كمركز لقيادة عملياته الحربية ، ونظم صفوف مقاتليه الذين بلغ عددهم سبعة آلاف مقاتل لخوض حرب استنزاف تعتمد على أسلوب العصابات الذي أثبت نجاحه في معارك الريف وحروب الزيانيين وكذلك كان، فقد كبد عسو قوات الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والعتاد واستدرج الغزاة نحو معارك مرهقة بكل من “تاوزا” و “دالنيف ” و “تازاين” و ” ناقوب” وغيرها ثم عمد إلى تقسيم قواته إلى ثلاث مجموعات إحداها عسكرت بجبل “بادو” والثانية اتخدت “كلميم” مقرا لها والثالثة تمركزت ببوغافر وهو الجزء العلوي من جبل ” صاغرو”.

ومع تفاقم خطر المقاومة حشد العدو فيالق عسكرية أخرى ودفع بها في أتون المواجهة فتحرك لواء الجنرال كاترو إلى أرض المعركة من جهة الغرب ومن الشرق تقدم الجنرال جيرو مدعوما بقوات الريف وزيز ،كانت قوات العدو معززة بالطائرات والمعدات المتطورة في ذلك الزمن مع وجود خطوط تموين لا ينضب معينها تتصل بورزازات و مراكش وتمد الجند بما يحتاجونه، علاوة على أن الخسائر البشرية لم تكن تؤثر كثيرا في القوات الفرنسية إذ سرعان ما كان يتم تعويض القتلى بجنود جدد من “الكوم ” و “لالجو” أما المقاومون فكانوا يعتمدون على إمكانياتهم الذاتية في تصنيع الأسلحة الخفيفة وشراء بعضها من تجار السلاح الذين لم يكن باستطاعتهم تأمين تسليح جيش كامل في معركة من حجم معركة “بوغافر”.

وحاول المقاومون بقيادة “عسو” تعويض الخصاص في العتاد بنصب الكمائن للعدو لاستخدام سلاحه في عملياتهم العسكرية ، ولعل أخطر نقطة سيستغلها العدو في إخضاع المقاومة هي ضعف تموين المقاومين إذ أن جل اعتمادهم كان على مساعدات القبائل التي كانت في معظمها تمتهن أعمال الفلاحة المعاشية، كل هذه العوامل التي كانت تشير إلى تفوق العدو عدة وعتادا ما كانت لتفت في عضد عسو وإخوانه.

ولما كان شهر فبراير من عام 1933م التحم عسو بالقوات الفرنسية في معركة دامت أربعين يوما بذل فيها المجاهدون الطارف والتليد وشاركت النساء في المعركة كما الأطفال فكبدوا العدو خسائر عظيمة إذ زاد عدد قتلى المحتل على ثلاثة آلاف فجن جنونه ووظف كل إمكانياته لإبادة المقاومين فصارت الطائرات تمطر المدنيين بقنابلها ليل نهار وتحرك جيش عرمرم مؤلف من ثمانين ألف جندي نحو معاقل المجاهدين.

فقد المغاربة الآلاف من إخوانهم في هذه الملحمة العظيمة ، وقدر عدد المدنيين الذين استشهدوا في “بوغافر” بأربعة آلاف ما بين شيخ وطفل وامرأة ، وأما المقاتلون فبلغ عدد قتلاهم سبعمائة شهيد قضوا في سبيل دينهم وكرامتهم وفقد البطل عسو أخاه وزوجته واثنين من أبنائه ، لم يكن أمام “عسو” سوى الرضوخ للأمر الواقع حقنا لدماء إخوانه تماما كما فعل قبله أسد الريف فقبل التفاوض بعدما أثخن في عدوه وأصيب هو نفسه بجراح نتج عنها إصابته بإعاقة دائمة في رجله.

وعند لقائه بالجنرال هور لاحظ هذا الأخير أن عسو لم يفقد شيئا من روحه القتالية فقال عنه لاحقا “كانوا – عسو ورجاله – يظهرون هادئين وقورين غير محطمين بالرغم من أنهم كانوا في أقصى حدود قوتهم واعين بأنهم صمدوا حتى النهاية وحافظوا على عاداتهم المشبعة بالحرية والشهامة “.

فاوض عسو خصومه بمعنويات مرتفعة واشترط عليهم ليقبل الصلح أن يسترد المجاهدون أموالهم وألا يتعرض الغزاة لنسائهم بسوء وألا يجبر الناس على خدمة الأجانب و أن يظل عسو شيخا للقبائل و ألا يكون للكلاوي أي نفوذ في القبائل المقاومة، وافق الغزاة على شروط عسو الذي أبان عن حنكة عالية في المفاوضات وأثبت أنه سياسي بارع مثلما كان قائدا عسكريا بارعا ، استثمر تضحية إخوانه على أفضل نحو ، فحقن الدماء وأوقف حرب الإبادة التي شنتها واحدة من أعظم القوى الاستعمارية في ذلك العهد ضد شعب أعزل.

 كان استسلام عسو في 24 مارس من عام 1933ولم يقبل الأهالي استسلامه وخاصة النساء ، وقد انبرى الشعراء الأمازيغيون لهجاء عسو فبالغوا في القسوة عليه وما زالت بعض أغانيهم الشعبية تحكي قصة “بوغافر” وتنعت عسو بأسوأ النعوت إلى اليوم ، غير أن قراءتها خارج سياقها التاريخي يخل بمعناها ، إذ أنها في مجملها تعبر عن رغبة الأمهات اللائي فقدن أبناءهن في مواصلة الحرب وترسم صورة ملأى بالدلالات لوفاء المرأة الأمازيغية التي فقدت زوجها في المعارك ولرغبتها في الأخذ بثأره ، وأما عسو فلا غبار على أنه بطل لا ينتقص من بطولته استسلامه في ظروف خاصة لأعدائه ، عاش عسو إلى أن استعادت بلاده حريتها حيث عين قائدا في فجر الاستقلال وظل في منصبه إلى أن وافته المنية عام 1960م بعد إصابته بمرض السكري فانضاف اسمه إلى أسماء أبطال هذه الأمة التي يحق لها أن تفخر بأمجادهم الخالدة خلود الدهر .

 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...