أجرى الحوار: خالد أبورقية
- منذ بداية تواصلنا معكم، من أجل هذا الحوار، بمناسبة 8 مارس، كان أول محور يطرح نفسه هو سؤال تعديلات مدونة الأسرة. في لا وعينا كما في لاوعي المجتمع ترتبط مدونة الأسرة بالمرأة بشكل أساسي، بما في ذلك الجدل الذي أثير حول التعديلات، كيف تفسرون ربط هذا النص القانوني بالمرأة فقط، بينما هو يهم الأسرة بأكملها؟
- أود بداية الإشارة إلى أن ارتباط المدونة بالمرأة في لاوعي المجتمع يعود، من جهة إلى كون الحركة النسائية المغربية المكونة من النساء أساسا، ومنذ بروزها في منتصف الثمانينات، جعلت من إصلاح مدونة الأحوال الشخصية كما كانت تسمى حينها، رهاناً مركزياً في النضالات التي خاضتها لعقود. وهو المطلب الذي احتاج إلى زمن غير يسير لتحقيقه، بالنظر لما كان يثيره من معارضات متعددة وكذلك لصعوبة التعاطي معه والتفاعل بخصوصه من طرف أصحاب القرار.
ومن جهة أخرى، حين نتحدث عن الأسرة، فنحن نتحدث عن خلية مكونة من المرأة (الزوجة) ومن الرجل (الزوج) بصفتهما المكونين المتعاقدين على تشكيل الأسرة. وفي إطار هذه الأخيرة، تُمثل المرأة الحلقة الأضعف بحكم التمييز الذي يقوم عليه هذا القانون.
هناك عدد من مواد المدونة التي تؤكد هذا التمييز، بدءا من الفلسفة التي تحكمها والقائمة على مبدأ القوامة؛ ومبدأ القوامة قائم في عمقه على التمييز والتراتبية حيث يعتبر الزوج هو المسؤول على النفقة المالية للأسرة التي تؤهله ليحتل سلطة رب الأسرة، مقابل العديد من الأدوار والمسؤوليات التي تتحملها المرأة دون الاعتراف لها بذلك، ودون ترتيب حقوق على أساسها.
التركيز على ما “يسديه” الرجل وما يمنحه من سلطات يحيل في عمقه إلى منظومة متكاملة يطلق عليها في العلوم الاجتماعية اسم الهيمنة الذكورية، وهي منظومة قائمة على فكرة التفوق الذكوري. وهذه هي الفلسفة التي تقوم عليها المدونة.
يمكن بطبيعة الحال أن نسوق أمثلة أخرى تؤكد ما ذكرناه. مثلا عدم المساواة في سن الزواج (15 للمرأة و18سنة للرجل) الذي خاضت حوله الحركة النسائية نضالا مريراً، كي يتم إقرار الرفع منه في مدونة الأسرة لسنة 2004 مع ترك الباب للحالات الاستثنائية. الملاحظ أن هذا الاستثناء استغل للترخيص في حالات كثيرة لزواج قاصرات في سن يقل أحيانا عن 15 سنة. هذا وبغض النظر عن انخفاض العدد فيما بعد، فاستمرار النقاش اليوم حول هذه الظاهرة وارتفاع بعض الأصوات المطالبة بالإبقاء على إمكانية الاستثناء يؤكد استمرار العقلية التي تعتبر أن مصير الفتيات في نهاية المطاف هو الزواج وأن قدرهن هو تكوين أسرة لا الانخراط في مشروع يقوم على امتلاك القدرة على اتخاذ القرار فيما يهم المصير الشخصي وعلى التمتع بحرية الاختيار، كما هو الحال بالنسبة للرجل.
مثال آخر هو المتعلق باقتسام ممتلكات بيت الزوجية المتراكمة أثناء الزواج في حالة الطلاق، حيث لا يُعترف للمرأة بما تتحمله من أعباء وينظر إلى الثروة المتراكمة وكأن الزوج وحده من ساهم في نموها. والحال أننا نعرف اليوم، وفي ظل النموذج التنموي الحالي في المغرب، أصبحت النساء، سواء توفرن على مؤهلات أم لا، يخرجن إلى سوق العمل من أجل توفير دخل يساهمن به في الإنفاق على أنفسهن وعلى أسرهن، والغالبية العظمى بينهن يشتغلن في ظروف عمل أقل ما يمكن القول عنها إنها لا توفر ضمانات العمل اللائق. أقل من 20 % فقط من النساء من يشتغلن في القطاع المهيكل.
والمعضلة هي أن المشرّع لا يأخذ بعين الاعتبار هذا التحول الواقعي ليرتب عليه حقوقا بالنسبة لهؤلاء النساء، ويستمر الحيف في حقهن وإنكار ما يسديهن والسعي لاستمرار التمثل الذي يعتبر كل ما تقوم به النساء يدخل فيما هو إنجابي طبيعي. لكل هذا، فالدفاع عن ضرورة إزالة هذا التمييز الذي تقيمه المدونة ضد النساء هو الذي يؤدي إلى ربطها بهن.
- في نفس سياق تعديلات مدونة الأسرة، أثير جدل واسع اتخذ أحيانا طابع النقاش والحوار، وأحيانا كثيرة وصل حد التراشق على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى بعض المواقع، كيف تابعتم هذا الجدل الذي شاركتم بدوركم فيه، وإلى أي مدى ترون أنها تعكس آراء وانشغالات المجتمع المغربي بشأن هذا الموضوع؟
- أود التمييز، كما حرصتم على ذلك في صياغة السؤال، بين التراشق والنقاش الذي قد يتحول إلى نوع من السجال. النقاش والجدل، وحتى السجال هو في نهاية المطاف مشغلة النخب التي تساهم في تطوير التفكير في قضايا تهم المجتمع، وهي تنطلق في ذلك من تصور عام وشامل للموضوع والقضية التي تكون موضوع النقاش. أما التراشق وما لاحظناه على وسائل التواصل الاجتماعي من طرف البعض فهو لا يرقى إلى مستوى المساهمة في التفكير وطرح بدائل.
الجدال وحتى السجال يكون الهدف منه بالأساس تطوير الفكرة وتقديم الحجج والأدلة والبراهين للدفاع عنها، بما يساهم، في نهاية المطاف، في تشكيل رأي عام، وهذا الأمر يهم أساساً النخب (الفكرية، الحزبية، الجمعوية، المدنية، السياسية، النقابية…) والتي لديها قضية تدافع عنها أو تعارضها. أما ما وقع على وسائل التواصل الاجتماعي من طرف المغاربة عامة الذين لا يعتبرون أنفسهم نخبا، علما أن من حقهم أن يعبروا عن رأيهم، فإنه بالأحرى تعبير عن الغضب والرفض الذي استعمل فيه السب والقذف والتخوين والتكفير، بالاعتماد على الإشاعة وعلى المغالطات ودون تدقيق ولا تمحيص للمعلومات. ما أبعده عن أن يكون نقاشا.
تفسيري لهذا الأمر هو أن الجو العام الذي يمر به المغرب والذي يتميز بالتضييق على الحريات العامة، وحالة الفتور التي تعاني منها النخب، لا يسمحان بتأطير النقاش العمومي كما ينبغي، مضاف إليه ضعف التواصل الحكومي. ترك الفضاء مفتوحا لالتقاط الإشاعات والمغالطات التي انحرفت بالموضوع وبالنقاش، وهو ما يفهم منه أنه يتجاوز حدود المدونة إلى التعبير عن الغضب من حالة الاحتقان التي أدى إليها الفساد (عدد من البرلمانيين المتورطين)، وغلاء المواد الغذائية وانخفاض القدرة الشرائية وقمع كل الأصوات المنددة والمحتجة.
في ظل هذا الاحتباس، يبدو لي أنه من الطبعي أن تثور ثائرة الناس حينما تطلق الإشاعات التي تسوغ الأمر على أساس أنه مؤامرة ضد الأسرة وضد الشريعة الإسلامية اللذان يشكلان عوامل الاطمئنان الوحيدة المتبقية للناس. في إطار الإشاعة، كان هناك حرص مُبيّت على ربط قانون الأسرة بالدين الإسلامي. وهو الحرص الذي استغل من طرف بعض من يتصيدون كل الفرص لدغدغة مشاعر ناخبيهم، وكأننا في حملة انتخابية دائمة، فزاد في الطين بلّة.
- عبرتم في حوار سابق مع منصة إعلامية بصراحة عن توجسكم من النص النهائي الذي يتم إقراره لمدونة الأسرة، وقلتم إنه بالنظر إلى ما تم الإعلان عنه رسميا في سياق النقاش، وردود الفعل التي أثارتها، فإننا أمام “إصلاح – ليس بإصلاح – وبعيد عن الاستجابة للانتظارات”، ما هي المؤشرات التي بنيتم عليها موقفكم، وما هي الخيارات التي ترونها متاحة للحركة الحقوقية من أجل الوصول إلى تعديلات عادلة ومنصفة؟
- عموماً، منذ الإعلان عن فتح ورش إصلاح مدونة الأسرة، تقديري العام كان أننا نوجد في لحظة جزر ولسنا في لحظة مدّ، لا على مستوى الحقوق والحريات، ولا على مستوى الجو السياسي العام لبلدنا وفي القلب منه الطريقة التي دبرت بها الانتخابات الأخيرة، ولا على مستوى الدينامية المجتمعية، وفي القلب منها المنظمات المدنية والأحزاب السياسية المناضلة من أجل الديمقراطية.
يعتبر السياق عنصرا محدّدا لطبيعة النقاش الذي يهم القضايا العامة، وقضايا المجتمع، وفي صلبها القضية النسائية وقضية إصلاح مدونة الأسرة. التأكيد على أننا نعيش لحظة جزر وتراجع، أعتبره محددا لما يمكن أن يتمخض عليه إصلاح المدونة لأنه يعكس طبيعة ميزان القوة السياسي..
من هنا، لم أكن أتوقع شخصيا أن يمس الإصلاح جوهر القضايا التي تتطلب إصلاحا حقيقيا، والتي ظلت عالقة منذ اعتماد مدونة الأسرة سنة 2004. طبعاً، كحركة نسائية كنا نقدر أن اعتماد المدونة حينئذ شكل خطوة مهمة ومكسباً لا يمكن التقليل منه، ولكن كنا على وعي بضرورة تحقيق التراكم، وعلى وعي بأن ما لا يدرك كله لا يترك جله. هذا ناهيك عن الاحتمالات الواردة بخصوص الاختلالات أو الخلل الذي يظهر بعد البدء في التطبيق المسطري للنص القانوني.
كنت أتوقع ولا زلت، أن الإصلاح سيمس أساسا بعض الجوانب المسطرية والتقنية، ولن يهم جوهر المقتضيات التي تحتاج، من جهة، إلى دينامية حقيقية للضغط والترافع والنضال والحضور في الساحة وفي النقاش العمومي، ومن جهة ثانية الحاجة إلى توافقات الفاعلين السياسيين، وهو ما لا يبدو ممكنا اليوم.
لحد الآن ما رشح من نتائج عمل اللجنة تضمن العديد من المؤشرات التي تعطي الدليل على أن قضايا كثيرة لم يتم التقدم فيها بشكل صريح وواضح. على سبيل المثال اعتماد الخبرة الجينية للاعتراف بالأبوة لصالح الطفل الذي يولد خارج مؤسسة الزواج. وهذه تبدو لي مشكلة حقيقية، من حيث رفض نتائج التقدم العلمي أولا، وثانيا من حيث ضرب مبدأ أساسي في الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي انضم إليها المغرب، ألا وهو المصلحة الفضلى للطفل. هذا الطفل الذي يحرم من اعتراف والده بنسبه إليه باعتباره أحد المسؤولين عن مجيئه لهذا العالم.
وعلى صعيد آخر، رفض النسب والتملص من تحميل المسؤولية للأب، يعني ضمن ما يعنيه أن الأم (المرأة) هي المسؤولة لوحدها عن الحمل، والحال أن المسؤولية مشتركة. فإذا كان المجتمع لا يزال مخلصاً لإرث ذكوري ضارب بجذوره في عمق الذكورية المستفحلة في المجتمعات الإنسانية كلها، والتي تُحمّل دائما المسؤولية في هذا الإطار للمرأة، فإن المشرّع ينبغي أن يحرص على مبدأ المساواة في المسؤولية المدنية والجنائية بين النساء والرجال.
هذا أحد المؤشرات المؤرقة للغاية، وهو إشكالي بشكل فظيع، إضافة إلى مؤشرات أخرى، قمن بينها تعدد الزوجات التي نعلم أن نسبته انخفضت جدا، ولم يعد مقبولا حتى من الناحية الأخلاقية، فلماذا لا زلنا نتلكأ ونتردد في منعه قانونيا. فهل التعدد يعتبرا ركنا مركزيا في الشريعة الإسلامية؟ إن التشبث به هو في عمقه تشبث بامتياز ذكوري لا أقل ولا أكثر يمنح الرجل سلطة معينة وإمكانية الضغط على الزوجة.
هذه الامتيازات التي تشكل إهانة للنساء، تلعب دورا في ترسيخ الهيمنة الذكورية وتنجم عنها آثار وخيمة، من ضمنها العنف القائم على النوع الاجتماعي بكل أشكاله وضمنه العنف الجسدي والجنسي والنفسي واللفظي.
- خلد العالم قبل أسبوع اليوم العالمي للمرأة، واتخذت منظمة الأمم المتحدة شعار هذه السنة “الحقوق والمساواة والتمكين لكافة النساء والفتيات”، وفق خطة بكين لسنة 1995، ما الذي يعنيه هذا الشعار بالنسبة لكم كحقوقية مغربية وناشطة في مجال حقوق النساء؟
- أود التوقف فقط عند نقطة تبدو لي مهمة، وهي أن الأمم المتحدة منذ تأسيسها سنة 1945، وإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي نصّ على مبدأ المساواة وعدم التمييز على أساس الجنس، تمّ وضع عدد من الآليات والمؤسسات التي أنيطت بها مهمة النهوض بأوضاع النساء وبحقوقهن، ومن ضمنها تنظيم مؤتمرات دولية حول هذه القضية، إضافة إلى اعتماد اتفاقيات بهذا الشأن، مثل اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة. تعتبر هذه الخطوات مكسباً للإنسانية بشكل عام، والذي ينبغي التذكير أنه لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة نضالات الحركة النسائية عالمياً على امتداد القرن التاسع عشر، والتي اتخذت طابعاً أقوى في القرن العشرين.
تزايد اهتمام منظمة الأمم المتحدة بالموضوع، حيث أقرت فيما بعد يوم 8 مارس كيوم عالمي للنضال من أجل حقوق النساء. وهو اليوم الذي تصدر خلاله بيانا مع شعار مركزي تعتبره شعاراً أساسياً يغطي اهتمامات المرحلة. هذه السنة اختير شعار “الحقوق والمساواة والتمكين لكافة النساء والفتيات”.
هذا الشعار يهم العالم بأسره، أي كل الدول الأطراف داخل الأمم المتحدة، والمغرب من ضمنها. ولا يمكن إلاّ التوقف عند أهميته، ولكنه في نفس الوقت يطرح أكثر من مشكلة، من ناحية أنه منذ 95 إلى اليوم مرّت ثلاثة عقود كان يفترض التقدم للانتقال إلى أولويات أخرى، لكن يتضح أنه لم تتحقق بعد المساواة التامة والتمكين للنساء والفتيات. ونقصد هنا التمكين والمساواة في الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية والبيئية، وأن تتحقق الحريات وإمكانية الاختيار الحر للنساء على قدم المساواة مع الرجال، وأن يتم القضاء على مختلف أشكال التمييز، وأن تتمكن النساء والفتيات من التعليم والتأهيل والولوج إلى سوق العمل اللائق، والولوج إلى مراكز القرار السياسي، والقضاء على العنف بكل أشكاله، وعلى الإقصاء والتهميش والتضييق والتقييد.
ولذلك رغم بعض الخطوات المحققة، لا زالت أمام الإنسانية تحديات كبرى، حيث لا زلنا للأسف نعود مرة أخرى لاجترار شعارات رفعت في السابق، ولم يتم التقدم فيها بشكل ملموس. وأنا كحقوقية مغربية وناشطة في مجال حقوق النساء، بقدر ما اعتبر انه مهم جداً الاستماتة والاستمرار والثبات على النضال من أجل إزالة وإلغاء كافة أشكال التمييز على أساس الجنس، بقدر ما أعتبر أنه يجب تجديد الرؤية والمقاربة والمنهجية لكي نتقدم بخطى أسرع مما كنا عليه في السابق.
وبطبيعة الحال، لا يمكنني ألا أتوقف عند الحقيقة المرة وهي أننا نعيش على إيقاع تراجعات مهولة تهم القوى الكبرى، والتي كانت تعتبر تجارب مهمة على مستوى الديمقراطية والحقوق والحريات والمؤسسات والقوانين وفصل السلط، التي تشكل البيئة الضرورية للتقدم في الاعتراف بمبدأ المساواة بشكل عام، والمساواة بين الجنسين بشكل خاص. هذه التراجعات أتصور أنه ستكون لها آثار سلبية على مسارات التقدم في البناء الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان وفي تحقيق المساواة بين الجنسين مستقبلا.
وحتى داخل الأمم المتحدة نحن نلاحظ كيف تضرب القوى الكبرى، أمريكا بالأساس، بعرض الحائط كل ما يمكن أن يتمخض عن هذه المنظمة، لأنه حينما تصبح القرارات الكبرى في التوازنات السياسية العالمية تنتهك، ونحن نعيش على إيقاع انتهاكات حقوق الإنسان، ونأخذ نموذجا الشعب الفلسطيني وغزة بالأساس، والإبادة الجماعية التي حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على دعمها، بل يمكننا القول إنها مسؤولة مباشرة عنها، والتي يعاني منها الشعب الفلسطيني، فهذا يضرب في مقتل مصداقية ما سيصدر مستقبلا.
تطرح اليوم أكثر من علامة استفهام على هذه المنظومة، وهذا ليس تقليلا من جدواها، ولكن في هذا السياق، أصبح ملحا إصلاح هذه المنظمة وإعادة النظر في التوازن داخلها من أجل استعادة التوازن السياسي في العالم وكي لا تبقى أمريكا هي المتحكمة في أنفاس البشرية، وإلا سيكون مستقبل الإنسانية مفتوحا على المجهول.
- قالت منظمة الأمم المتحدة، في آخر تقرير لها، إن حقوق المرأة تراجعت في ربع بلدان العالم، في سنة 2024، بسبب عوامل أهمها إضعاف المؤسسات الديموقراطية، والتقنيات الجديدة، وتغير المناخ، هل تتفقون أن حقوق المرأة ترتبط بسياق عالمي، أم أن هناك خصوصية تميز الوضع في المغرب؟
- من المؤكد أن هناك ارتباطا قويا بين إضعاف المؤسسات الديمقراطية والتراجع في مجال الحقوق عامة وتلك التي تهم النساء بشكل خاص. بالمناسبة ينبغي التذكير أنه من الناحية التاريخية سجل تقدم في الاعتراف للنساء بالحقوق على قدم المساواة مع الرجال بالضبط في البلدان التي وضعت أسس الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان. أكيد أن الديمقراطية ليست شرطا كافيا لتحقيق المساواة التامة بين الجميع، لكنها شرط ضروري. سبق وأن أشرت أن التراجعات التي تمس أنظمة ديمقراطية عريقة سيكون لها أثر سلبي على البلدان التي تعاني “هشاشة” مؤسساتية بالإضافة إلى مختلف أنواع الاختلالات الأخرى، الاقتصادي منها والاجتماعي بما لذلك من كلفة على الحقوق بكل أنواعها.
وخصوصيتنا نحن هي أننا لا زلنا نعاني من مشكلة التضييق على الحريات، ومن مشكلة دمقرطة المؤسسات، ومن إشكالات مرتبطة بالنموذج التنموي، ومشكلة الفقر ومن احتكار فئة لثروات البلاد على حساب الأغلبية الساحقة، بنسائها ورجالها. نحن الآن أمام تحدي بناء الديمقراطية والمؤسسات وفصل السلط وربط المسؤولية بالمحاسبة، هذا وضعنا الخاص الذي علينا مواجهته.
أنبه هنا أن الخصوصية كما تُتداول مغربيا هي تلك التي تهم الجانب الديني والثقافي، والتي اعتمدت من طرف الدولة المغربية لرفض المساواة بين الجنسين وتبرير التحفظات على المادة 16 لاتفاقية السيداو، كما فعلت أغلب الدول الإسلامية. وهنا ينبغي التنبيه إلى أن التمييز على أساس الجنس ليس خصوصية مغربية أو إسلامية حتى يتم إرجاع حلّه إلى الدين، بل هو الكونية المتقاسمة بين كل دول العالم والقسمة الأكثر عدلاً بين المجتمعات البشرية قاطبة كيفما كانت دياناتها. كونية تحيل إلى منظومة ضاربة بجدورها في عمق التاريخ البشري، والتي استُغلت الديانات ووُظفت للإبقاء عليها.
تتخذ الخصوصية في هذه الحالة طابعها الذي يختلف من سياق إلى آخر، ومن داخلها ينبغي اجتراح بدائل لإزالة التمييز. فبدل توظيف المرجعية الدينية للتشبث بالتمييز بين الجنسين عبر قراءة ذكورية قطعية، يمكن اعتماد قراءات تنويرية مساواتية واجتهادات غنية قدّمها عدد من العلماء المسلمين أمثال ابن عرضون والطاهر حداد وعلال الفاسي وغيرهم كثير. يصبح للخصوصية في هذه الحالة معنى لا يتعارض مع الكونية بل رافدا من روافدها.
- يأتي هذا اليوم في سياق الحرب في فلسطين، نعيش وقف إطلاق نار هش في غزة، وحربا حقيقية في الضفة الغربية، حرب أولى ضحاياها النساء والأطفال والمدنيون عموما، وبالمقابل، نشاهد في الإعلام الغربي، وفي بعض أوساط الحركات النسوية في أوروبا بشكل خاص، تبريرا للسياسة الإجرامية للاحتلال الإسرائيلي، إن لم يكن غالبا تحاملا على الضحايا، كيف تفسرون هذا الأمر، وهل هناك من دور يمكن أن تلعبه الحركة النسائية في المغرب؟
- أود بداية الإشارة أنه حتى في نفس البلد، ليس هناك تيار واحد يوحد كل الحركات النسائية. فكون هذه الأخيرة تناضل من أجل المساواة بين الجنسين وضد الذكورية، لا يعني أنها تتفق حول كل القضايا. الحركات النسائية، مثلها مثل كل الحركات تتأثر بسياقاتها وبالتيارات الفكرية التي تخترق فضاءها وبالأولويات والرهانات التي تحددها لنفسها.
ارتباطا بالقضية الفلسطينية هناك بعض التيارات النسوية في أوروبا، منحازة بشكل واضح لـ “إسرائيل، لكن في المقابل هناك تيارات نددت واحتجت وصرخت ضد الإبادة الجماعية وأعلنت بوضوح مساندتها للشعب الفلسطيني وحقه في بناء دولته. على سبيل المثال تيار “فرنسا الأبية” و Paroles D’Honneur، وLes Indigènes de la République.. هذا إضافة إلى أسماء باحثات ومناضلات نسائيات وازنات في بلدانهن مثل جوديت باتلر وميشيل سيبوني وفرنسواز فرجيس ومنى شوليه وآني إرنو وغيرهن كثير.
لذلك علينا في المغرب، كما في دول الجنوب، بقدر انتباهنا للمساندين للكيان الصهيوني، أن ننتبه ونركز على أصوات الحركات السياسية، وفي قلبها الحركات النسوية، التي انتفضت ضد الإبادة الجماعية، وساندت الشعب الفلسطيني في معركته من أجل استرداد حقوقه وطالبت بوقف إطلاق النار وأدت الثمن في سبيل ذلك. أكبر المسيرات هي التي شهدتها عواصم غربية.
لذلك أعتقد أنه وبقدر ما ينبغي أن ننتفض ضد اليمين المتطرف العنصري، الكاره للإسلام والعرب وللقضية الفلسطينية، ينبغي كذلك أن ننتبه وأن نهتم بهذه الأصوات وبهذه التيارات لأنها تسائل مدى قدرتنا نحن على استيعاب هذا التنوع وهذا التعدد الذي سمحت به دول الديمقراطية والمواطنة والمساواة بشكل عام، وفي القلب منها الدول التي سمحت بالتقدم في قضية المساواة بين الجنسين.
وردّا على سؤال ما الدور الذي يمكنه أن نلعبه، أقول إن ما يمكن أن نقوم به هو الاشتباك والتنسيق والاشتغال ونشر هذا الفكر الإنسي الذي تعبر عنه حركات عالمية، وضمنها حركة نسوية تغلب عليها الأصوات الشابة، وهي أصوات المستقبل، ولذلك من المهم التركيز على هذا الفكر ونشره، لأن من صالحنا أن نفتح تفكيرنا، لا أن نجيب على الحقد بالحقد المضاد، والعنصرية بالعنصرية المضادة، والكراهية بالكراهية المضادة، بل باستيعاب هذه الأصوات وتوسيع دائرة التفكير القائم على الانفتاح، والإيمان بالتسامح والاختلاف والتعدد، ورفض فكرة التفوق من أي طبيعة كانت، سواء الحضاري أو العرقي أو الديني أو التفوق على أساس الجنس.
- كان يوم 8 مارس، إلى وقت قريب، يوما للنضال من أجل حقوق النساء، وهي نضالات حققت بعض المكتسبات في المغرب، لكننا نلاحظ أن هذا النضال تحول إلى نضال “فوقي” إيديولوجي، يتخذ طابعا فكريا أكثر منه طابعا ماديا على أرض الواقع، منذ مسيرتي سنة 2000 إلى الآن، إن كنتم تتفقون مع هذا الرأي، عند أي منعرج زلت قدم المدافعين عن حقوق المرأة؟
- أود الإشارة إلى أن الحركة النسائية المغربية كان لها الفضل في وضع القضية النسائية المغربية في أجندة اهتمام مختلف الفاعلين، ونجحت في تسييسها، وإثارة الانتباه إليها وتحقيق عدد من المكتسبات بخصوصها. تاريخ هذه الحركة هو مسار لنساء ضحّين وتطوّعن ورافعن، وبينهن من أدّين كلفة نضالهن سجنا ومنفى.
إنه جيل انخرط في النضال الديمقراطي خلال سنوات الرصاص والقمع وربط النضال النسائي بالنضال من أجل الديمقراطية والحريات.
ككل الحركات، عرفت الحركة النسائية المغربية مدا وجزرا ولحظات قوة ولحظات فتور. بخصوص المنعرج كما جاء في السؤال، أعتبر شخصيا المنعرج تمثل أساسا حينما أفلت جزء من الحركة النسائية الموعد مع لحظة تاريخية مهمة، هي لحظة 20 فبراير. فلم يتم التفاعل مع نداء الشباب الداعي للتظاهر في سياق عربي منفلت من قبضة التشدد الاستبدادي؛ ولم يتقرر التفاعل إلا بعد خطاب الملك في 9 مارس، حيث كان الهدف هو إعداد مذكرة لتقديمها للجنة المنوني.
طبعا خرجت العديد من المناضلات في المسيرات بشكل فردي لا كتعبير جماعي. لم يصدر أي بيان من طرف المنظمات ليوضح سبب موقف الصمت، ولكن يستشف أن التواجد القوي لجماعة العدل والإحسان، كان وراء ذلك. في قراءتها للساحة، كان واضحا لجزء من الحركة النسائية أن القوى اليسارية توجد في حالة هوان وبالتالي لن تنجح في الضغط على ميزان القوة السياسي وقد تخرج راسبة في الامتحان. وهو ما جعلها تفضل السقف المحدد في الخطاب الملكي بدل المغامرة بما “لا تحمد عقباه” في منطقها.
مقابل ذلك كان هناك موقف آخر عبرت عنه العديد من المناضلات، الذي اعتبر 20 فبراير لحظة مفصلية وتاريخية، ينبغي التعامل معها بشكل إيجابي، وأن الساحة مفتوحة للجميع وعلى الجميع أن يتواجد بها لإسماع صوته، وينزل بثقله ويضغط في اتجاه اعتماد دستور أكثر ديمقراطية من دستور 1 يوليوز 2011.
إذن بالنسبة لي هنا زلّت القدم، وهنا كان الخلل، وهي زلة لا تهم الحركة النسائية فقط، بل تهم بعض مكونات اليسار، وأساسا حزب الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، وكذلك حزب الاستقلال وحزب العدالة والتنمية.
- شكل موضوع المرأة محور دراسات الفقيدة فاطمة المرنيسي، وخصوصا موضوع الحريم باعتباره فضاء ضمن المجال الاجتماعي الذي ينقسم إلى فضاء عام وآخر خاص، نبسطه عموما بداخل البيت وخارجه، ألا تعتقدون أن جزءا من الحركة النسوية ساهم في خلق نوع آخر من “الحريم” بفصل النضال من أجل حقوق النساء عن النضال العام من أجل العدالة والديمقراطية والحريات وضد الفساد في كل المجالات؟
- قدمت ضمنيا أجوبة عن هذا السؤال فيما سلف، ولكن أؤكد أن المناضلات النسويات، من الجيل القديم، مسيّسات وربطن في نضالهن بين الديمقراطية والقضية النسائية. إلا أن طبيعة التعامل مع لحظة 20 فبراير بينت سقف الديمقراطية كما يفهمه عدد من الفاعلين حيث نقل الصراع من العمودي إلى الأفقي ومن بُعده السياسي الاجتماعي إلى البعد الهوياتي.
ومهما يكن، فهذا جيل لعب دورا مهما في مرحلة معينة وحقق مكتسبات، وحتى وإن مسه بعض الفتور فالدينامية مستمرة، وهناك جيل آخر يتبلور ويعيد من جديد ربط القضية النسائية بمختلف القضايا الأخرى وفي القلب منها قضية الحريات والديمقراطية. نعم، جيل تواجهه صعوبات ليس أقلها التضييق على الحريات الذي يمنعه من لعب دوره…لكن مهم جدا، الانتباه كيف أصبحت مختلف الحركات تضم نساء يخرجن إلى الساحات ويسمعن أصواتهن…من حراك الريف وجرادة، وصولا إلى احتجاجات الأطباء والأساتذة ومرورا بفكيك.
- كتبتم في تدوينة بمناسبة 8 مارس، “كانت هناك محاولات للتقدم، لكن سرعان ما تراجعنا بعد أن ملأنا ربع الكأس…كأسنا “مثقوب” لم يحتفظ إلا بالبلل”، ما مصدر الثقوب التي تحدثتم عنها، وإلى متى قد يصمد هذا البلل؟
- مصدر الثقوب، هو أن الدستور الذي اعتمد في يوليوز 2011 على علاّته، لم يتم تفعيله ولا ترجمته على أرض الواقع. إننا نعيش منذ مدة مسلسلا من التضييق على الحريات وانتهاك الحقوق طولا وعرضا، وقمع كل الأصوات وتكميمها واعتقال كل من يكتب أو يدون في الفايسبوك أو يتكلم في اليوتوب.
نعيش تراجعاً مهولا في القدرة الشرائية، ومشكلة حقيقية في التعليم والصحة العمومية، حيث أصبحت خوصصة القطاعات الحيوية خيارا استراتيجيا. هذه هي الثقوب التي أتحدث عنها، والتي أصبحنا ننزلق نحوها بالتدرج منذ 2011، ولكن استفحل أمرها مع حراك الريف والاعتقالات التي مست رموز هذا الحراك، وسنوات السجن التي حوكموا بها. نشهد اليوم انتكاسة، حيث عدنا إلى ما قبل منتصف التسعينيات، أي اللحظة التي قرر فيها الحسن الثاني مع النخب السياسية، وبضغط من الحركات الاحتجاجية طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة. لقد كان في النهاية مجرد قوس فتح مع حكومة التناوب، لكنه أغلق بسرعة وعدنا لسالف عهدنا. هذه ثقوب خطيرة لا يمكن إلا أن تكون لها عواقب وخيمة، وارتدادات خطيرة، وآثار سلبية جدا على الجو العام والمناخ السياسي في البلاد، وعلى فضاء الحريات والحقوق، وعلى المعيش اليومي وفي قلبها أوضاع النساء.