عبد الإله مول الحوت.. الفعل الفردي وإمكانية التغيير

-حسن تزوضى-

يعيش قطاع الصيد البحري في بلاد المغرب مفارقة صارخة، فرغم توفر البلاد على واجهتين بحريتين غنيتين بكل أنواع السمك، يجد المواطن المغربي نفسه عاجزًا عن شراء أبسط وأرخص أنواع الأسماك بسبب الاحتكار والمضاربة التي تفرض أسعارًا تتجاوز قدرته الشرائية، حيث يسيطر عدد قليل من الفاعلين الكبار والمضاربين المحتكرين على دورة الإنتاج والتوزيع، من الصيد إلى البيع، ما يؤدي إلى ارتفاع غير مبرر للأسعار وتحكم قلة في ثروة يُفترض أن تكون متاحة للجميع.

في هذا السياق، تأتي مبادرة عبد الإله مول الحوت لتكشف زيف هذه المنظومة، وتُظهر أن ما يُنظر إليه كقواعد حتمية للسوق ليس سوى توازنات قوة مفروضة تخدم مصالح محددة، ففي عالم يبدو محكومًا بقوانين لا تقبل الجدل، حيث تُفرض الأسعار وفق منطق لا يتيح للفرد سوى الامتثال أو الانسحاب، يأتي هذا الشخص المناضل الشجاع القنوع ليكسر هذه القاعدة من الداخل، ليس عبر المواجهة المباشرة، ولا عبر الاحتجاج التقليدي، بل من خلال إعادة تعريف العلاقة بين البائع والمشتري، بين السعر والقيمة، بين السوق والعدالة.

إن ما قام به “عبد الإله مول الحوت” يتجاوز كونه قرارًا تجاريًا استثنائيًا؛ بل إنه يكشف عن خلل مقصود في نظام يقدّم نفسه على أنه غير قابل للخلل.

الاقتصاد حسب الكثير من المنظرين الاقتصاديين ليس مجرد أرقام، بل هو منظومة من العلاقات والقيم التي تتغلغل في وعي الأفراد حتى تبدو وكأنها الطبيعة ذاتها، فحين يقرر شخص ما كسر هذه المنظومة، فإنه لا يغيّر الأسعار فحسب، بل يغيّر الإدراك الجمعي لما هو ممكن، وهذا أخطر وأجمل وأعظم ما في الأمر: أن تتبدد سلطة “الضرورة” التي طالما قيل إنها تحكم السوق.

إن العظيم والخطير في مبادرة “عبد الإله مول الحوت ” ليس منطق الربح والخسارة، بل كشف الوهم الذي يقوم عليه منطق السوق الاحتكاري، حيث تُفرض القواعد باعتبارها قوانين حتمية غير قابلة للتغيير، في الوقت الذي ليست إلا مجرد توازنات قوة تخدم مصالح محددة.

لكن هل يستطيع فعل فردي واحد إحداث تغيير جذري؟ هنا تكمن المفارقة، فالتغيير لا يبدأ دائمًا من الجماعة، بل من شرخ صغير في جدار الصلابة الظاهرية لمنظومة ما. عندما يقوم شخص واحد بفعل استثنائي، فإنه يضع الآخرين أمام سؤال غير مريح: إذا كان قادرًا على فعل ذلك، فلماذا لا نفعل نحن؟ هنا يتجاوز الفعل تأثيره المادي ليصبح فكرة، نموذجًا بديلًا، إمكانية لم تكن مرئية من قبل.

المنظومات الكبرى، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، تستمد قوتها من قدرتها على الظهور بمظهر الحتمية، وأية محاولة لتقويض هذه الحتمية حتى لو كانت بسيطة، ستهدد استقرار النظام بأكمله. لهذا فإن التفاعل مع تجربة مثل تجربة عبد الإله مول الحوت لا يكون بمنطق المنافسة العادية، بل بمحاولات الضغط والتضييق والتخويف، ليس لأنه يُضعف السوق، بل لأنه يفتح ثغرة في بنيته الرمزية، يضع سؤالًا خطيرًا في الأذهان: هل كان يمكن أن يكون الأمر مختلفًا طوال هذا الوقت؟

الحرية الحقيقية ليست مجرد قدرة على الاختيار داخل القواعد القائمة، بل هي القدرة على إعادة التفكير في القواعد نفسها، وهنا يكمن جوهر التمرد الذي جسدته هذه المبادرة.

ليست المسألة في بيع السمك بسعر أرخص، بل في إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والنظام الاقتصادي الذي يُفترض أنه يحكمه. في لحظة كهذه، يصبح الفرد أكثر من مجرد بائع، بل نقطة انكسار في سردية كبرى، شرارة لاحتمالات جديدة، وربما لبداية تمرد أوسع نطاقًا.




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...