كلمة أسرة ملفات تادلة في الذكرى الخامسة لرحيل الأستاذ محمد نجيب الحجام

الزملاء والأصدقاء

تحية طيبة، تحية من مكان نقدر أن روح فقيدنا تحل به لتلقي علينا السلام، لقد حرصت أساطير الأمم القديمة على تصور مآل أسلافها، فمنها من اعتقد أنهم يصبحون آلهة في رحلة طويلة، ومنها من يؤمن أنهم يعودون في أجساد وأشكال أخرى، وإن كان لنا أن نجترح أسطورة لأستاذنا محمد نجيب الحجام، فإننا سنقول للأجيال القادمة إنه أصبح شجرة عالية، وإنه يتسامق اليوم في مركز الأشجار العالية، وإنه الآن يقينا برد الشتاء، ويلطف الهواء الذي نتنفسه، ويعد لنا ظل الأيام القائظة.

الأصدقاء والزملاء والحضور الكريم

إننا نجتمع اليوم كي نحيي ذكر رجل سعى بيننا، وتحدث على الأرجح إلى كل واحد منا، ولا يوجد من بيننا إلا من يذكر له على الأقل موقفا أو جملة أو حكمة، حتى إنه يوشك إن تشابكت أيدينا وتمتمنا باسمه أن ينبجس من بيننا ويظهر. هذا الرجل الذي لم يأب إلا أن يترك أثرا من حيثما مر، لن يحتاج أن ننسج عنه أسطورة، لقد صنع أسطورته بنفسه ومضى.

تحل اليوم، أيها الأصدقاء، الذكرى الخامسة لرحيل زميلنا وأستاذنا محمد نجيب الحجام، ويلتئم جمعنا هذا لنجد بعض العزاء عن رحيله، ونعيد ذكره كما أسلفنا في تأبينه، “بما يليق برجل ترك بصمته في المشهد الإعلامي الجهوي والوطني دون أن تتسرب شبهة إلى حبر قلمه، وبصحافي فتح طريقا شاقا وصعبا دون أن تتخاذل خطواته في الدرب، وبمناضل أودع رصيده في حساب الوطن والحرية دون أن يطمع في استثمار أو فائدة”.

وإننا اليوم رغم مرور خمس سنوات، لا يخجلنا أن نقر أن طعم الفقد لا يزال يحتفظ بقوة نكهته ونفس حدتها في ألسنتنا، لكننا مع ذلك نحتفظ بقيم فقيدنا ونحفظ لحلمه طراوته، ولمشروعه الاستمرار، ولنضاله من أجل وطن لكل مواطنيه كل الزخم.

لقد حرص أستاذنا على مدى ثلاثة عقود أن تضطلع الصحافة بدورها الحقيقي، وتقوم بواجبها، فقد مارست ملفات تادلة، رغم الإكراهات والظروف القاهرة، دورها كسلطة رقابية تسائل المسؤولين والقائمين على الأمر، ولم يفتها أن تكون وسيطا واحتضنت ندوات ومبادرات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ما يتعلق بوضعية الأمازيغية حين كان ذاك أشبه بالطابو، وبادرت إلى فتح باب التعبير لحركة 20 فبراير حين حاول البعض التشكيك أو التيئيس من قدرة شباب هذا الوطن على انتاج فعل يدفع نحو التغيير، ولم يفتها أن ترفع الصوت أمام المجازر التي ترتكبها الرأسمالية في كل بقاع المعمور، من العراق إلى فلسطين.

ووعيا منه بدور الثقافة والأدب، أشرع فقيدنا باب المؤسسة للإبداع والفن، ويشهد المركب الذي يحتضن بدفء لقاءنا ما حرصت ملفات تادلة على تنظيمه من ندوات ولقاءات فكرية وأدبية، فضلا عن شراكتها مع مكاتب ابن خلدون، الصديقة والرفيقة وحاملة هذا الهم، وجمعية أصدقاء الكتاب، فضلا عن فتح باب النشر على صفحات الجريدة وعبر مؤسسة النشر.

وحيث ينعقد لقاؤنا بشراكة أيضا مع مسار التميز في الصحافة والإعلام بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، إضافة إلى مركب الأشجار العالية ومكاتب ابن خلدون، فإننا نسير على خطاه حين كان حريصا على استقبال الصحافيين المتدربين، لقد رسم لنا طريقا لا يرد فيه متدربا، ولا يبخل عليه بمعرفة، وقد سار معظمنا على هذه الطريق واسترشد بالعلامات التي وضع فقيدنا عليها، وإننا اليوم حين نستقبل زملاءنا المتدربين لا نفعل سوى تمرير بعض ما ترك لنا من إرث عظيم.

واليوم، ونحن نعيد نشر افتتاحياته، نرى مدى عمق فكره وصواب رأيه، إننا حين نقرأها اليوم نلمس بصيرته التي تجعل ما كتب لايزال يحتفظ براهنيته، فقد كان يملك هذه القدرة على التحليل التي تختزل سنوات من الدراسة والمتابعة، وزمنا من الترحال داخل المغرب وخارجه، ويمكننا أن نرى بوضوح أكبر مواقفه بشأن قانون الصحافة والنشر، وبشأن الجهوية الموسعة.

لقد ناضل فقيدنا من أجل قانون صحافة يحمي الصحافيين ومن خلالهم يحمي حق المواطن في المعلومات، وفي مؤسسات مهنية تبنى بأيدي الصحافيين وتسهم في الرفع من جودة عملنا، وكان هذا دأبه حين انضم إلى المجلس الوطني للصحافة، مثلما كان دأبه في الفيدرالية المغربية لناشري الصحف، وفي الوقت نفسه لم يتردد في تشجيعنا، إن لم نقل في تحريضنا، نحن مستخدمو الجريدة على الانخراط في العمل النقابي، بوصلته في كل ذلك هو قيمة الحرية.

وحيث أنه قرر بوعي أن يطلق جريدة ملفات تادلة من بني ملال، وأن تحمل اسمها هوية ومرجعا، فإنه كان يستبق الخطابات حول الجهوية (موسعة ومتقدمة)، ويؤسس تجربة على أرض الواقع تفتح هذا الأفق، إن التصور الذي حملته وتحمله ملفات تادلة تجاوز المفهوم المناطقي المنزوي في قوقعة جغرافية محددة، بل هو تصور يحمل هم الوطن ويجعل الجهوية رافعة لتحقيق التقدم والعدالة والإنصاف.

إن هذه النظرة التي حملها فقيدنا، وأورثنا إياها، تسعى إلى رفع الغطاء عن العقليات المتقوقعة في المناطق، تماما كما تسعى إلى تفتيت العقليات المتحجرة المسكونة بالمركز، نظرة لا ترى نهضة سوى ببناء ينطلق من الجهات، ويجعل من الاختلافات غنى، ومن التنوع رافعة للتشييد والتقدم. وإننا بهذا المعني جريدة جهوية تهتم بالخصوصية التي تغني هذا الوطن، وجريدة وطنية تهتم بتفاصيل ألوان هذه الأرض وتفرزها وتنكب عليها كما تفعل نساء الأطلس وهن يعكفن على المناسج.

إننا في مؤسسة ملفات تادلة نقدر قيمة الإرث الذي تركه لنا أستاذنا وزملاؤه من جيل المؤسسين، ولهذا لم نتعب يوما من تكرار ما خطوه ذات خريف قبل أكثر من ثلاثة عقود: “إن ملفات تادلة تنبع من وعي المسؤولية كمنطلق، وتتجدد بمواجهة نزوة العبث كهدف. والمسؤولية إذ تتقوم بالوطنية، فهي في جانبها القانوني والأخلاقي واجب وتكليف، وبتعبير أكثر وضوحا: أمانة. وإذا كان الوطن أمانة في عنق الجميع، من مختلف المواقع، فهذه بالذات هي المهمة المركزية التي جاءت ملفات تادلة للنهوض بها”.

وإننا بتقديرنا للإرث الذي ذكرنا، نقدر أيضا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا، فنحن ندرك أن ملفات تادلة ليس مجرد مؤسسة إعلامية، بل هي بيت آمن لكل محبي فقيدنا والرعيل الأول من المؤسسين، كما هي ملاذ لكل الباحثين عن الحقيقة والمناصرين للحرية، ولكل منهم من فقد أستاذنا نصيب، لذلك نكرر ما أعلناه في يوم رحيله بأننا “وإن شعرنا باليتم لفقده، فإننا نحمل هذه الرسالة العظيمة التي ترك، ونمد أيدينا إلى كل أعضاء عائلة ملفات تادلة في كل مكان من المغرب ومن العالم، ندعوهم لنكمل ما بدأه، لتبقى ملفات تادلة مدرسة عريقة وبيتا وآمنا”.




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...