حسن تزوضى: في نقد المنظور الفلكلوري التسويقي للتراث الثقافي: من أجل مقاربة تستنبط القيم وتعيد بناء الذات المغربية
-حسن تزوضى-
يطرح التراث الثقافي المغربي أسئلة معقدة حول كيفية التعامل معه، أسئلة تزداد إلحاحا في ضوء المقاربة الفلكلورية السائدة التي تهيمن على السياسات الثقافية الرسمية، فدائما ما يتبادر إلى الذهن تساؤل عميق: كيف يمكن أن نستعيد تراثنا بطريقة تعكس جوهره العميق وتجعله منطلقًا للنهضة والتنمية المستدامة؟ هل يحتوي هذا التراث على قيم وأدوات معرفية يمكن أن تسهم في بناء ذات مغربية متصالحة مع تاريخها وساعية إلى التقدم؟ أم أن تراثنا مختزل في أشكال احتفالية سطحية، لا تعدو كونها “شطيح ورديح”، تُسوق لتلبية متطلبات الاستهلاك السياحي؟
تُبنى المقاربة الفلكلورية على تقديم التراث كمنتج ثقافي استعراضي مفصول عن سياقاته الاجتماعية والتاريخية، حيث يتم التركيز على مظاهره الشكلية كالأزياء التقليدية، الرقصات الشعبية، والأهازيج الجماعية، مما يحول التراث إلى مجرد سلعة قابلة للتسويق، يظهر ذلك في تسليع رموز ثقافية كفن كناوة مثلا الذي يُعرض في مهرجانات تُعلي من الجانب الموسيقي وتغفل عن أبعاده الروحية والاجتماعية، ينطبق الأمر ذاته على مظاهر تقليدية مثل طقوس الأعراس أو الصناعات الحرفية التي تُقدم كمشاهد تُستهلك دون محاولة ربطها بمنظومات القيم التي أفرزتها.
يكشف نقد هذه المقاربة عن قصورها في إدراك العمق القيمي والفكري للتراث، وهذا منظور استهلاكي متجاوز على غرار ما أشار إليه هوركهايمر وأدورنو في نقدهما للصناعة الثقافية، يتجلى هذا القصور في تحويل التراث إلى منتج ترفيهي يهدف إلى الإمتاع بدل الإثراء، الصناعة الثقافية بحسب هذين المفكرين تُفرغ الثقافة من بعدها النقدي وتُحولها إلى وسيلة لترسيخ الهيمنة والنمطية والامتثال الاجتماعي، ينطبق هذا الوصف بدقة على تعامل المغرب الرسمي مع التراث، حيث يُسلب التراث قدرته على مساءلة الحاضر والمساهمة في بناء المستقبل.
يتطلب تجاوز هذا القصور إعادة اكتشاف التراث كمنظومة قيمية تزخر بأبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وبيئية، يمكن استنباطها وتطويرها لبناء ذات مغربية متوازنة، فعلى سبيل المثال لا الحصر يبرز النظام القبلي الأمازيغي كنموذج يعكس حكمة التنظيم الاجتماعي، حيث يظهر الفصل بين السلطات في أدوار الطالب (الفقيه) وأمغار(الشيخ)، مما يعكس ما يمكن تسميته “علمانية وظيفية” تضمن التوازن بين البعدين الروحي والاجتماعي، فالفقيه لا يتدخل في أمور الشيخ فهو يطلع بالادوار الروحية الدينية ،بينما الشيخ بالأدوار السياسية ،كما نجد أيضا في الأعراف القبلية قيم الديمقراطية التشاورية من خلال مجالس “إنفلاس” التي تعتمد على الحوار الجماعي في اتخاذ القرارات.
تُظهر التجربة المغربية أيضًا حساسية بيئية متقدمة من خلال ممارسات وقواعد وتقنيات تتجلى في نظام الري التقليدي والصيد والاستشفاء حيث نلمس نماذج للتدبير المستدام للموارد الطبيعية، تحمل هذه الأنظمة حلولًا مبتكرة تُبرز العلاقة المتناغمة بين الإنسان وبيئته، كما تُعتبر الصناعات الحرفية التقليدية مجالًا خصبًا يعكس عبقرية تحويل الموارد المحلية إلى منتجات ذات طابع جمالي ووظيفي، مما يؤكد إمكانية استثمار التراث لتعزيز الاقتصاد المحلي.
يدعو هذا الغنى إلى ضرورة كشف القيم الكامنة في التراث وإعادة توظيفها بطريقة تُمكن الأجيال المقبلة من تحقيق نهضة فكرية واجتماعية، يجب أن يتجه الباحثون المغاربة نحو تحليل التراث بعمق أنثروبولوجي وفلسفي، مستفيدين من أدوات منهجية دقيقة، وكما أشار بول ريكور: “الفهم الحقيقي للتراث يتطلب قراءته بوصفه سردية حية تعبر عن إرادة الوجود والاستمرار”، يعني ذلك أن التعامل مع التراث لا يجب أن يكون مجرد استعادة للماضي، بل محاولة لبناء سرديات جديدة تستند إلى قيم الماضي لتحقق تطلعات الحاضر والمستقبل.
يجب أن يبدأ هذا الجهد بإعادة النظر في المناهج التعليمية والثقافية التي تُقدم التراث، وذلك يتحقق من خلال تعزيز الدراسات الأكاديمية التي تتناول التراث بوصفه مجالًا للبحث المعرفي، بدلًا من الاكتفاء بدراسته كموضوع فولكلوري، وهذا الأمر يتحقق من خلال الوعي بضعف وقصور المنظور الفلكلوري والاتجاه نحو تطوير أدوات ومناهج قراءة الثرات بالانفتاح على تجارب الأمم التي سبقتنا إلى ذلك.
يتطلب الأمر أيضًا تبني رؤية فلسفية تستلهم من التراث قيمًا تُمكننا من مواجهة إشكالات الحداثة دون الانزلاق في استلاب غربي أو انغلاق شرقي، وكما قال محمد عابد الجابري، “النهضة الحقيقية تبدأ حين يتحول التراث إلى قوة حية تُعيد بناء العلاقة بين الماضي والمستقبل”، بهذا المنطق، يمكن للتراث المغربي أن يصبح أداة لإعادة تشكيل الهوية الوطنية وتعزيز وعي جماعي يجعل من “تامغربيت” نموذجًا للتحرر والنهضة.
لا يمكن اختزال التراث في صوره الفلكلورية، بل يجب استعادة عمقه الفلسفي والاجتماعي، إن إعادة قراءة التراث وتطوير مقاربة معرفية عميقة تجاهه تُعد مسؤولية أخلاقية تقع على عاتق كل باحث ومثقف يسعى إلى بناء مستقبل متجذر في الهوية المغربية، ومتفتح على آفاق إنسانية رحبة.