قضية طلبة الطب.. النقيب الجامعي يكتب: سابقة مسطرية في تاريخ القضاء المغربي

 -عبد الرحيم الجامعي-

في محاكمة الطلبة الأطباء أمام المحكمة الابتدائية بالرباط یومه الأربعاء 8 دجنبر، تدخلت و وقفت الدولة المغربیة في شخص رئیس الحكومة، ودخلت ووقفت معھا وزارة الداخلیة والمدیریة العامة للأمن الوطني والوكالة القضائية للمطالبة بتعويضات عما أسموه بالضرر اللاحق بھیبتھم وحددوا التعویض ضد كل واحد منھم وعددھم 27 طالبا طبیبا في 20.000.00 درھم وھو ما مجموعه 540.000 درھم و یبدو أن ھذه الواقعة بقدر ما تشكل سابقة مسطریة من نوعھا، وخرقا كبیرا غیر مقبول من الدولة ومن مسؤولیھا الكبار، وبالطبع غیر مقبول مھنیا من محام دفاعھم، بقدر ما ھي تعبیر عن قرار سیاسي خطیر.

لم یسبق أن مارسته الدولة ضد مواطنیھا في دعوى قضائیة بشكل علني، مستخدمة شعار “الھیبة ” أي افتعال ضرر جدید له طبیعة سیاسیة بكل المقاییس، وھي العبارة التي لھا معاني الخوف والخشوع وترمز للإهانة وللإدلال والامتهان وغیرھا من المرادفات في القاموس اللغوي.

ولبیان ھذه الحیثیات الخاصة والفریدة وبیان الانحراف الذي وقعت فیه الدولة ومؤسساتھا الدستوریة والحكومیة والإدارية یمكن إبداء خمس ملاحظات وھي:

الملاحظة الأولى: إن “الدولة” التي تقدمت بالمطالب المدنیة بواسطة محامیھا، لم ُتعرف باسمھا، ولا َیعرف أحد وبالخصوص لا تعرف المحكمة ولن تستطیع أن تعرف ھل الأمر یتعلق بالدولة المرابطیة أو المرینیة أو الإسبانیة أوالنرویجیة أوغیرھا، ولاشك أن الأمر وراءه سر في عدم إفصاح “الدولة” المنصبة طرفا مدنیا والمطالبة بتعویض عن ھویتھا، والسر في عدم ذكر اسم الدولة( الدولة المغربیة) في مذكرتھا، ھو أنھا لا ترید أن ینسب إلیھا كونھا ھي المعنیة بإصابتھا في ھیبتھا، رغم أنھا استعملت قوتھا وقمعھا المشروع وألقت القبض بواسطة أجھزتھا الأمنية على الأطباء الطلبة وقدمتھم للمحاكمة ومارست علیھم نفوذھا وفرضت ھیبتھا من دون أیة مقاومة من الطلبة الاطباء، وفضلت ارتكاب مخالفة مسطریة أي تقدیم مذكرة بھویة مجھولة، ثقیلة بخطأ مسطري غیر مقبول منھا ومن دفاعھا حتى تتھرب عن كل انتقاد .

الملاحظة الثانیة: إن الدولة التي نصبت نفسھا طرفا مدنیا ضد الطلبة الأطباء وطالبت بتعویضات، َجرت إلى جانبھا وزارة الداخلیة والوكالة القضائیة ومدیریة الأمن الوطني، واعتقدوا أنھم كلھم ضحایا 27 طالبا طبیبا، وكلھم أصیبوا في ھیبتھم، وكل مؤسسة من المؤسسات طالبت لصالحھا بـ 20.000 درھم ضد كل طالب، وھذا الاختیار مرفوض مسطریا، إذ لا تجمع الدولة مع بقیة الأطراف مصلحة واحدة ولا یجمعھم ضرر موحد وحقیقي فضلا على أن الطلبة الاطباء لم یرتكبوا ضدھم لا فرادى ولا جماعة أي فعل ألحق بھم الضرر المزعوم، وأن الھیبة PRESTIGE لا تفتقدھا الدولة ولا وزارة الداخلیة ولا الأمن الوطني حتى عند حدوث اخطر الجرائم، فبالاحرى بمجرد ارتكاب شخص مخالفة أو جنحة، بل إن الدولة ومرافقھا امنیة كانت أو اداریة أو ترابیة، تستمر لھا ھیبتھا بما تعطیه لھا القوانین الجنائیة و المحاكمات العادلة و تنفیذ العقوبات الحبسیة، من سلطات وصلاحیات…. و إن افترضنا أن فقدت الدولة ومن معھا ھیبتھا أمام وقفة سلمیة أو مظاھرة عادیة أو مسیرة …الخ، فھذا امر لا یعني سوى إن الدولة تنعت نفسھا بالضعف و بالانھیار، و تتھم سلطاتھا بالسلبیة لدرجة لم یعد لھا وجود… ومن ھنا فإن المطالبین بالحق المدني المشار الیھم اعلاه لیسوا ضحایا حقیقیین للطلبة الاطباء، وتدخلھم في المسطرة أمام المحكمة ھو مجرد مناورة مسطریة من قبلھم تتوخى التظاھر بالضعف وافتعال الضرر للتأثیر على قرینة البراءة وعلى قناعة المحكمة في اعتبارھم أبریاء مما نسب الیھم من قبل النیابة العامة التي التمست كغیر عادتھا تمتیعه الطلبة بظروف التخفیف.

الملاحظة الرابعة: أنه وإن كان لكل شخص طبیعي أو معنوي أو من أشخاص الحق العام حق المطالبة بالتعویضالمدني عما أصابه من ضرر مباشر تسببت فیه الجریمة مخالفة كانت أم جنحة أم جنایة، فإن حق الدولة والجماعات الترابیة المحلیة حصرا مقید أمام القضاء الجنائي طبقا للفقرة الأخیرة من المادة 7 التي لا تسمح سوى للدولة والجماعات، المطالبة من مرتكب الجریمة سوى استرداد المبالغ التي طلب منھا دفعھا لموظفین أو لذوي حقوقھم، وبالملف موضوع متابعة طلبة الطب، فإن الدولة ووزیر الداخلیة ومدیر الأمن الوطني والوكیل القضائي اعتبروا من حقھم المطالبة بالتعویض عن الضرر المعنوي طبقا للفقرة الأولى من المادة السابعة، وھي أول مرة تطالب الدولة بتعویض عن ضرر معنوي خیالي رغم إن حیز حقھا ضیق ومحاصر بالفقرة الأخيرة من المدة 7 من ق. م .ج، وھنا وقعت الدولة ومن معھا ومن دافع عنھا في فھم منحرف للمسطرة، مما یفرض علیھا وعلى َمرافقھا أن یعیدوا تكوینھم و یراعوا دروسھم في المسطرة، لأن المسطرة التي سلكوھا لا تلیق بالدولة ولا بمرافقھا ولا بسمعتھا ولا بھیبتھا التي لم تعرف كیف تحافظ علیھا حتى لا تجرھا اخطاؤھا للانتقادات القانونیة أمام الرأي العام وأمام العالم، وھذه وسائل كلھا بالطبع ماسیجعل المحكمة بالتأكید تحكم بعدم قبول مطالبھا، وستحملھا الصوائر التي أضاعتھا من المال العام أي من خزینة الدولة (القسط الجزافي، أتعاب المحامي، والوقت القضائي..) ، في إجراءات معیبة وغیر صحیحة كان علیھا أن تتفاداھا و تستعمل الذكاء القانوني وحتى الاصطناعي لتترقب وتتنبأ بمستقبل ومأل دعواھا المدنیة وتدرس بعنایة فائقة قواعد الدفاع وعلم المحاكمات قبل المجازفة بصرق المال العام …

الملاحظة الخامسة: إن الدولة ومن معھا كطرف مدني في ملف الطلبة الأطباء، اختاروا علنیا ورسمیا أن تكون محاكمة الطلبة الأطباء محاكمة ذات طبیعة سیاسیة، فھم من زاویة أولى كلھم أشخاص عمومیة وسیاسیة تمارس صلاحیات سیاسیة ووظائف مرتبطة بالشأن العام الإداري والترابي والمرفقي، یترأسھم رئیس الحكومة ھو ومن معه لیسوا سوى أشخاص یشرفون و یدبرون مؤسسات سیاسیة في مفھوم الدستور وفلسفة الحكم، وھم من زاویة ثانیة ادعوا أنھم أصیبوا بضرر في ھیبتھم، والھیبة لھا دلالات سیاسیة قبل أن تكون قانونیة أو جنائیة، فالھیبة مرتبطة بوظیفة وسلطات المرفق وتعني الخوف والحذر والمخافة والإجلال، وبالتالي فالخیار في دخول الدولة ومن معھا في مسطرة عادیة جنحیة ضد طلبة أطباء، َیحمل معنى غیر ممارسة حق التقاضي، والمعنى ھو أن الدولة لا یعنیھا أن یمارس القضاء وظیفته في تطبیق القانون باستقلال وتجرد وقبولھا بنتیجة المحاكمة، بل تراھن على ما یسمى “بالطاعة والتخویف والحفاظ على الھیبة” وھذا منطق خارج عن العصر، وخارج عن منطق دولة القانون وبعید عن روح دستور 2011، ولا یلیق بالدولة وھي رئیسة دورة مجلس حقوق الإنسان، ودولة ترید بناء مؤسسات عصریة حداثیة، أن تتحدث عن سیادة السلطة وقوتھا وھیبتھا، عوض الحدیث عن سیادة القانون والمشروعیة وعن المسؤولیة والمحاسبة…

وانا آسف في ختام ملاحظاتي السریعة أعلاه، أن أعبر عن ألمي وأنا أقرأ مذكرة دفاع الدولة ووزیر الداخلیة ومدیریة الأمن الوطني والوكالة القضائیة التي لا محل لھا أصلا ولا أھلیة لھا أن تطالب ذلك بتعویضات…، واقرأ زلاتھا المسطریة من شخص أعرف قدراته القانونیة كقاضي سابق، ویقبل تقدیم مذكرة المطالب المدنیة في ُحلة لا تلیق برجل دفاع، عوض أن یقدم النصیحة لموكلیه حتى لا یغامروا بمسطرة مآلھا الفشل في نظر القانون ومنطق السیاسة… وھذا یمكن للدولة إن تحافظ على ھیبتھا ولدفاعھا المحافظة على ھیبة المحاماة.
و ِزدتُ اقتناعا أنه لیس كل قاضي ناجح یمكن أن یكون محامیا ناجحا، فالصناعة القضائیة التي َخبرھا دفاع الدولة ووزارة الداخلیة ومن معھما، لا تشفع له أن یصبح خبیرا ناجحا في علم المُحاماة إلا بعد حین…، وعلى أي حال، أرجو له التوفیق….

النقيب عبد الرحيم الجامعي
الرباط: 8 ینایر 2025




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...