أجرى الحوار: خالد أبورقية
- أصدرت المحكمة الابتدائية بالرباط، مؤخرا، حكما بالسجن النافذ سنة ونصفا، في حق الصحافي حميد المهدوي، مع تعويض قدره 150 مليون سنتيم لصالح الوزير عبد اللطيف وهبي؛ هذا الحدث يعيد إلى الأذهان الحكم الذي صدر بحقكم بعد شكاية السفير والوزير السابق محمد بنعيسى. ما هي برأيكم أوجه التشابه والاختلاف بين الحكمين، وما الذي يمكن استخلاصه؟
بداية تتشابه القضيتان من حيث جهة المتابعة، فأنا بدوري تمت متابعتي من طرف وزير في الحكومة، والوجه الآخر للتشابه، والذي أعتقد أن من المهم إبرازه، هو أن متابعتي ومتابعة حميد المهداوي تمت في ظل حكم الملك محمد السادس، لأنني مارست الصحافة وكنت مدير جريدة في عهد الحسن الثاني الحسن لمدة سنتين ولم أتابع، ومن المؤكد أن ما صدر بحقي هو أقسى حكم في ملكية محمد السادس، وجاء حينها بعد سنوات لم تشهد متابعة للصحافيين بهذه الطريقة، ففي زمن الحسن الثاني لا ننسى أن السنوات الأخيرة لم تشهد متابعة للصحافيين بهذا الشكل.
الحكم الذي صدر بحقي كان حكما قياسيا، حيث حكم علي، كما حدث لحميد المهدوي مع عبد اللطيف وهبي، بأداء تعويض للوزير محمد بنعيسى، يبلغ مليوني درهم (200 مليون سنتيم)، إضافة إلى 3 أشهر سجنا نافذا، وبعد الاستئناف تم تخفيض التعويض إلى 500 ألف درهم (50 مليون سنتيم)، وتحول السجن النافذ إلى السجن موقوف التنفيذ. وما يجب إثارة الانتباه إليه، أن الدولة والحكم، بعد ذلك، استخدما تهم السب والقذف لمضايقة الصحافة، ولكن في غالب الأحيان، الأشخاص المتابعون لم رغموا على أداء التعويضات، بينما في حالة “لوجورنال” أرغمنا على الأداء، حيث في النهاية السيد بنعيسى حصل على 800 ألف درهم (80 مليون سنتيم).
بالنسبة لأوجه الاختلاف، لا أعتقد أن وهبي لديه قرابة مع الملك محمد السادس، كما كان حال بنعيسى، هذا الأخير كانت لديه قرابة مع الملك، وقرر متابعتنا عقب منع الجريدة بعد الاستجواب الذي أجريناه مع محمد عبد العزيز، رئيس البوليساريو آنذاك، وبدا أنه كان ينتظر إشارة وأعطيت له، بالنسبة لنا كانت أول مواجهة حقيقية مع ملكية محمد السادس، في أبريل سنة 2000، حين منع عدد واحد من الجريدة، آنذاك لم يكن المنع نهائيا، هذا الأخير حصل في دجنبر 2000، لذلك غيرنا الاسم من “لوجورنال” إلى “لوجورنال إيبدومادير”.
بيت القصيد هنا هو أن بنعيسى قرر متابعتنا بعد المنع، وأتى ذلك بعد أشهر عديدة من النشر، لذلك أعتقد أنه تلقى إشارة. وبالتالي ليس لدي يقين أن متابعة حميد المهدوي تكتسي صبغة متابعة من طرف النظام، على عكس حالتنا، جميع المؤشرات تدل على أن النظام هو من تابعنا، أي أن القرار أتى “من فوق” ولم يكن مجرد وزير يتابعنا، قد يكون نفس الأمر في حالة المهدوي لكني لا أملك اليقين لقول هذا.
ما يمكن استخلاصه لا يقتصر على قضية المهدوي، لأنني لا أعتبرها تطاولا على الصحافة من طرف الدولة، فقد كانت هناك قضايا، بما فيها قضيته الأولى ومتابعة “الدبابة”، ومتابعة عمر الراضي وسليمان الريسوني، ومتابعات أخرى، أضعها في إطار أوسع، وحيث أنني لا أملك يقينا أن وهبي تصرف بدعم من الملك والنظام الأمني في المغرب، لا أنفي أنها خطيرة وغير مقبولة، لكني أعتقد أن طبيعة متابعة زيان والزفزافي وعمر الراضي وسليمان الريسوني أكثر خطورة، لأن النظام هو من يتابعهم، حيث يعتبر أنهم مسوا بثوابت معينة، وهو ما لا أراه في حالة المهدوي الحالية، وحين أقول إن النظام هو من يتابعهم أقصد قطبين هما الملكية من جهة، والقطب الأمني من جهة ثانية.
- متابعة الصحافي حميد المهدوي وفق القانون الجنائي عوض قانون الصحافة والنشر أثارت جدلاً واسعاً يتجاوز طبيعة المحتوى الذي يقدمه عبر قناته، الذي اعتبر الحكم أن النشر عبرها لا يدخل في نطاق الممارسة الصحافية، ليصل إلى تساؤلات حول حدود ممارسة العمل الصحافي ودور الصحافي في المجتمع. برأيكم، ما مدى وجاهة هذا النقاش؟ وما هي الدلالات التي يحملها؟
هذا سؤال مهم ومعقد، لا أعتقد أن الدولة هي من يجب أن يقرر من هو صحافي ومن ليس صحافيا، لنأخذ مثال المنظومة الإعلامية التي أعتبرها أكثر انفتاحا وبالتالي الأكثر إيجابية بالنسبة لي، وهي المنظومة الأنجلو-سكسونية، والأمريكية بشكل خاص، على مستوى حرية التعبير، في هذه المنظومة لا يفرق القانون بين الصحافي وغير الصحافي، وبالتالي نفس القوانين التي تطبق على فرد عادي هي نفسها التي تطبق على الصحافي، علما أن المبدأ الرئيسي في فلسفة حرية التعبير، هو كون مجال الحرية واسع جدا ويشمل المواطن العادي.
أعطي مثالا بقضية تفسر التحول الذي حصل في تعاطي الدولة مع الصحافة في البلدان الديمقراطية، وهو تحول حصل في الستينات، بناء على قضية حكمت فيها المحكمة العليا، كانت بين رئيس شرطة مونتغمري في ولاية ألاباما في مواجهة “نيويورك تايمز”، والقرار الذي أصدرته المحكمة العليا سنة 1964. أهمية القرار أن أو. سوليفان، الذي كان رئيس شرطة رفع دعوى ضد نيويورك تايمز، بعد إشهار مؤدى عنه، لمجموعة من المثقفين والفنانين دفاعا عن مارتن لوثر كينغ، المناضل من أجل المساواة والحقوق المدنية للسود، وتحدث المنشور عن الاعتداء على مارتن لوثر كينغ والتعسف عليه في مظاهرة بمدينة مونتغمري، وذلك ما اعتبره أو. سوليفان سبا وقذفا، وطالب “نيويورك تايمز” بتعويض قدره 500 ألف دولار، وهو مبلغ كان يمكن أن يؤدي إلى إفلاس الجريدة. واستمرت مراحل التقاضي إلى أن بتت المحكمة العليا في الموضوع لصالح الجريدة، وبنت حكمها على أن المنشور قد يتضمن سبا وقذفا لكنه ليس كافيا لإدانة “نيويورك تايمز”، لأن على رئيس الشرطة إثبات أن النشر وإن كان سبا وقذفا قد تم بسوء نية.
هذا الحكم قلب موازين الصحافة في الكثير من البلدان الديمقراطية، التي تبعت الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أكد أن من حق الصحافي أن يخطئ في حق رجل السلطة، وبقدر علو درجة رجل السلطة يتسع هامش الحرية لدى الصحافي، وعلى رجل السلطة إن رغب في إدانة الصحافي أن يثبت أن هذا الأخير إثبات وجود سوء النية، لذلك يقع عبء الإثبات على المدعي، هذا الأمر صعّب على المسؤولين موضوع المتابعات وتم توسيع حماية الصحافيين لأشخاص آخرين، والمحكمة العليا عللت قرارها بأن تسهيل متابعة وإدانة الصحافيين والمسؤولين سوف يصبحون متخوفين من التحري في أداء المسؤولين، وحيث أن وظيفة الصحافة التي تعتبر جوهرية في الديمقراطية هي مراقبة النخب، لذلك فضلت المحكمة أن يؤدى ثمن السب القذف بدل تأدية الثمن بصحافة لا تقوم بدورها الأساسي.
لذلك أصبح من الصعب على المسؤولين والشخصيات العامة متابعة الصحافيين، وأصبح على المذكورين سالفا أن يقبلوا أداء ثمن شهرتهم وتصديهم للمسؤولية والسلطة بحدوث تجاوزات في حقهم، وهذه التكلفة على المجتمع أن يكون مستعدا لأدائها، لأن كلفة عدم أدائها ثمن باهظ وهو خشية الصحافيين القيام بعملهم. بينما بالنسبة لنا في المغرب، الأمر معكوس، فكلما ارتفعت درجة المسؤولية يكون القضاء أكثر قسوة مع الصحافيين.
بالنسبة للمتابعة بالقانون الجنائي أو قانون الصحافي، أراه نقاشا ثانويا جدا، لأن المشكل الرئيسي في المغرب هو تخلف المؤسسات بأكملها، وهذا يتجلى في عدم استقلال القضاء. أن يحكم القاضي بناء على أي من القانونين ليس مهما لأن المعضلة هو عدم استقلاليته، أعتقد أن هذا هو الإشكال الأساسي، فإن لم نقم بإصلاح هذه المسألة دستوريا، حيث هناك أقطاب السلطة التي لا تحاسب، بداية من الملكية، ومرورا بالمؤسسات التي ترتبط بالملكية وعلى رأسها المؤسسة الأمنية، فإن استمرت عدم محاسبتهم لا يمكن أن يكون هناك قضاء مستقل ولا يمكن أن ننتظر من العدالة المغربية إنصاف الصحافيين.
إضافة إلى ذلك، المشكل المطروح هو أن الدولة تعتبر أن ما ينشر على منصة يوتيوب لا يرتبط بالصحافة، وحين يتحدث صحافي عبر هذه المنصة تنتفي عنه هذه الصفة، بالنسبة لي لا أنتظر من الدولة أن تحدد من هو الصحافي ومن هو غير الصحافي، لأنه في إطار حرية التعبير، يجب أن تخول لجميع المواطنين فرصة التعبير عن آرائهم، سواء بصفة منتظمة مؤسساتية أو بصفة غير منتظمة مؤسساتية. وهذا لا يعني ألا تكون هناك حدود، أوردت مثال قضية مونتغمري، لكن في المقابل وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، هناك حالات أثبتت فيها سوء نية الصحافي الذي ينتقد المسؤول السياسي، وتمت الإدانة، لكنها تبقى صعبة، لذلك بالنسبة لي أعتقد أن هذا المبدأ يجب تطبيقه بالنسبة لكافة المواطنين، قد يكون هذا الأمر صادما للبعض، لكن يجب أن ننتبه إلى ان الدولة تمكنت من شبه إبادة المؤسسات الصحافية المستقلة، ولم يبق أمام الذين يتحدثون بشيء من الحرية هم من يتوجهون إلى منصة يوتيوب ومنصات التواصل الاجتماعي، لذلك على الحقوقيين أن يدافعوا عن هؤلاء الناس أولا وقبل كل شيء.
- في نفس السياق، توجه الانتقادات للعديد من التجارب الصحافية بسبب تركيزها على إبراز السلبيات، وتجاهل التطور والإنجازات التي يحققها المغرب، ولنذكر مثلا في مجال السياسة الخارجية، إلى أي مدى تتفقون أو تختلفون مع هذا الرأي؟
هذا السؤال يواجهه جميع الصحافيين في البلدان السلطوية، بداية ليس من حق النظام أن يفرض على الصحافة التركيز على الأمور الإيجابية أو السلبية، هذه سلطة تامة للصحافي، وأكثر من ذلك هي سلطة تامة للمواطن ليركز على ما يريد، ومن هنا تأتي أهمية التعددية في الصحافة، لذلك إن لم يكن هناك من يتحدث عن الجوانب الإيجابية لن تظهر سوى الجوانب السلبية.
لكن من جانب آخر، من يطرحون هذا السؤال يتجاهلون أن الدولة تسيطر على جزء كبير من المشهد الإعلامي الذي شغله الشاغل هو التطبيل والتمجيد، ولا يورد سوى ما هو إيجابي. لذلك فإن متابعة صحافي أو “يوتيوبر” فقط لأنه لا يتطرق سوى للجوانب السلبية هذا أمر لا معنى له.
ثالثا وأهم شيء، كما ذكرت سابقا، الوظيفة الأولى للصحافة في إطار المنظومة السياسية التي تحترم مواطنيها هي مراقبة النخب، لأن المواطن يريد أن يعرف أداء الشخص الذي صوت عليه، هل يقوم بعمله جيدا أم هو شخص مرتش مثلا. وبالتالي فالصحافة الجدية من طبيعتها أن تعطي قسطا أكبر من تركيزها على الجوانب السلبية، لأن هذا توجه إصلاحي، لذلك من المهم التركيز على الأمور التي لا تسير بشكل جيد وليس على اجوانب التي تعمل بشكل جيد.
وعلى صعيد آخر، إن كان “اليوتيوبرز” والصحافيون يتهمون بأنهم يقومون بذلك العمل من أجل المال (الأدسنس)، وهذا المال يأتي من المشاهدين، بمعنى أنه إن كانوا هؤلاء “اليوتيوبرز” والصحافيين يستقطبون عددا كبيرا من المشاهدين يعجبهم هذا المحتوى، هذا يعني أن التركيز على الجوانب السلبية يأتي بناء على طلب من المشاهدين لتناول هذه المواضيع، وبالتالي طرح هذا السؤال أجده تافها جدا ورديئا من الناحية الفكرية، ولا يجب إعطاء أهمية لهذا النقاش.
- أنتم من المدافعين عن أن دور الصحافة هو مراقبة النخبة، بالنظر إلى المشهد السياسي في المغرب، والذي يطبعه الجمود وتعدد التنظيمات الحزبية في غياب أي تعددية سياسية، ألا ترون أن هذا الواقع هو ما وضع الصحافة في مواجهة السلطة، بمعنى أن أصل المشكل يأتي من النظر إلى الصحافي باعتباره فاعلا سياسيا بديلا؟
هذا متمم للسؤال الثالث، الصحافي بطبيعته فاعل سياسي، لكنه ليس فاعلا بديلا عن الفاعلين السياسيين الكلاسيكيين، أي أنه ليست لديه إرادة للولوج إلى السلطة، أفهم من هذا السؤال، وهو مطروح بشكل عام في المغرب، أن الفاعلين السياسيين، أو بشكل أدق، رجال السياسة لا يقومون بعملهم في مواجهة من يملك السلطة حقا، لأن هذا هو بيت القصيد، فرجال السياسة يتناقضون ويتصارعون فيما بينهم، لكنهم لا يتحدثون عن الأمن الذي يشكل القطب الثاني في السلطة بعد المؤسسة الملكية.
يشكل انتقاد من يملك السلطة حاجة ماسة داخل أي مجتمع، وبما أن رجال السلطة لا يقومون بهذا العمل، يتصدى له الصحافيون، لذلك يجب أن نفهم أنه هناك فراغ تملأه الصحافة، ونحمد الله أن الصحافة هي من تملأه، ولكن هذا الأمر لا يعني أن هؤلاء الصحافيين، ليست لديهم أهداف ليكونوا وزراء ورجال سياسة، قد يكون لدى البعض هذا الطموح، لكن أغلب الصحافيين ليسوا كذلك.
- بعد العفو عن الصحافيين عمر الراضي وسليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين، كان من المتوقع أن يشهد المشهد الإعلامي انفراجا ومساحة أوسع للعمل الصحافي وحرية التعبير، لكن الحكم الأخير ومتابعة حقوقيين كفؤاد عبد المومني وضع شكوكا حول مدى هذا الانفراج، ما هو تفسيركم لهذا الأمر؟
فعلا، بعد الإفراج عن عمر الراضي وسليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين، كان هناك تفاؤل بشأن تعامل الدولة مع الصحافة، وأعتقد أن ذلك التفاؤل كان مبالغا فيه لسبب بسيط هو أن الآخرين ظلوا في السجن، فالنقيب زيان لازال داخل السجن، وأنا أعتبر أن المنظومة التعسفية التي حركت المتابعة ضد الريسوني والراضي، هي نفسها التي حركت المتابعة ضد محمد زيان وناصر الزفزافي، الذين أضعهما في نفس الخانة مع الصحافيين، إضافة إلى معتقلي الريف والمدونين على منصات التواصل الاجتماعي.
وبالتالي لا أرى أن التفاؤل كان مبررا، ومما لا يدفعنا إلى التفاؤل كثيرا، هو أنه لا يجب التعويل على مزاج ومرونة السلطة في حمايتنا من تغول السلطات المغربية، بل يجب التعويل على القوانين، والمشكلة هي أن المؤسسات والقوانين في المغرب، مبتورة من الجانب الذي يحماي الصحافيين والمواطنين في قضايا السب والقذف. نحن لا نتوفر على المؤسسات الديمقراطية التي توفر هذه الحماية، وطالما لم تتغير القوانين والدستور في اتجاه حمايتنا من تجاوزات السلطة فسنبقى عرضة لذلك.
- عرف تاريخ الصحافة في المغرب، إغلاق جرائد ومجلات عديدة، سواء بقرارات من السلطات أو بتجفيف مصادر دخلها، يمكننا تذكر ما حصل مع مجلة أنفاس، مرورا بما حدث لجريدة أنوال، ثم لوجورنال والصحيفة ودومان، والجريدة الأولى، ويمكننا استحضار حجب موقع لكم في نسخته الأولى، كما عرفت منابر أخرى “تصفية” بشكل مختلف كما وقع لنيشان وأخبار اليوم، برأيكم لماذا تلجأ الجهات التي تريد التضييق على الصحافة إلى القضاء ومتابعة الصحافيين بالسجن، بدل الاستمرار في نفس النهج الذي يبدو أنه حقق أهدافها؟
في هذا السرد الوارد في سؤالكم، لم تأخذوا بعين الاعتبار تطورا إيجابيا في حرية التعبير، خلال السنوات الأخيرة من حكم الملك الحسن الثاني، وهذا كان من الحوافز الأساسية التي دفعتنا إلى تأسيس “لوجورنال” و “الصحيفة”، سنة 1997، لأننا اعتبرنا أن مساحة الحرية عرفت توسعا، وبالفعل خلال سنتين اشتغلنا فيها تحت ظل ملكية الحسن الثاني تمكنا من التطرق لطابوهات آنذاك كانت تعتبر مواضيع غير مقبولة بتاتا من طرف الملكية، بدون مضايقات، كانت بعض المشاكل لكنها تعتبر طفيفة مقارنة مع ما عشناه في ظل ملكية محمد السادس.
بالتالي عند سردكم للقضايا الكبرى وتتحدثون عن أنفاس وأنوال ولوجورنال، تعطون الإيحاء أن الوضع كان دائما سيئا ولم تتغير من حيث عطاء الدولة، من الناحية القانونية كانت ولازالت لدينا مؤسسات متخلفة على هذا الجانب، لكن من ناحية توجه الدولة والملكية بشكل خاص في شأن حرية الصحافة، عشنا فترة تاريخية كانت فيها الملكية أكثر انفتاحا وتمتع بسعة صدر أكثر تجاه الصحافة والتي تجلت في السنوات الأخيرة لحكم الحسن الثاني.
بالنسبة لشق الممارسات تجاه التضييق على الصحافة، أعتبر أن هذا التحول حدث مع وصول الملك محمد السادس إلى الحكم، وكان الأمر مسلطا على الصحافة المستقلة التي برزت في أواخر التسعينات في عهد الحسن الثاني، وضمنها “لوجورنال”، “الصحيفة”، “دومان”، وأيضا “تيل كيل” و “نيشان”، رغم أن خطهما التحريري مختلف. لنتذكر أول مرة منع فيها “لوجورنال” في أبريل 2000 بعد نشر الاستجواب مع محمد عبد العزيز، ثم المنع الثاني الذي كان نهائيا، والذي أثار جدلا وضجة كبيرة، في دجنبر 2000 حيث منعت “لوجورنال” و “الصحيفة” و “دومان”، لنتذكر أن هذين المنعين كانا بناء على الفصل 77 من قانون الصحافة آنذاك، والذي كان يخول للحكومة أن تمنع بقرار إداري بدون اللجوء إلى القضاء، بمعنى أنه لم تكن تعطى الفرصة للصحافيين أن يدافعوا عن أنفسهم أمام القاضي وعلى الملأ، وبعد تلك الضجة الكبرى التي كانت سلبية بالنسبة للنظام، لأننا كنا في سياق ملك جديد وحقوق الإنسان، تم تلطيخ صورة العهد الجديد، ومست سمعتهم وطنيا ودوليا، لذلك إثرها أقروا قانونا جديدا سنة 2003، حذفوا منه الفصل 77، ولأنهم نخب سلطوية تحتاج لأدوات للتعسف على الصحافة، وبذلك بعد حذف الفصل المذكور، أصبحوا يلجأون إلى استراتيجيات قد تبدوا أنها غير تعسفية، هي في الحقيقة استراتيجيتان، إحداها ذكرتموها في سؤالكم، الأولى هي أن المتابعة القضائية كما يحدث في حالة المهدوي، حيث يتم الدفع بأن الوزير وهبي شخص من حقه أن يلجأ إلى القضاء إذا شعر أنه تعرض لإساءة ويمكن للصحافي أن يدافع عن نفسه، بينما القضاء غير مستقل، فالقرار في عمقه قرار إداري، والقاضي سيستجيب لأمر الجهاز التنفيذي، لكنه سيتخذ هالة القضاء. وبالتالي فهم يستعملون القضاء لأنهم يعتبرون أن القرارات القضائية ستكون مقبولة لدى الرأي العام أكثر من القرارات الإدارية.
أما الاستراتيجية الثانية، والتي أعتبرها أخطر، التي استعملت ضد الصحافة وعلى إثرها تمت إبادة المؤسسات المستقلة، هي الوسيلة الاقتصادية والتجارية عبر مقاطعة المعلنين، حيث تنظم حملة ضد المؤسسة وسط المعلنين لقطع الإشهار مما يؤدي إلى موت المؤسسة. المشكلة التي تواجه الدولة الآن هي لجوء الناس إلى مصادر أخرى، وهذه الحالة المهدوي رغم أنه ليس ضمن نفس توجه “لوجورنال”، وتوجه الراضي والريسوني وغيرهما، حيث يختلف عنهم بعدم نقاش المسؤولين الحقيقيين ويعتبر ذلك مسا بالمؤسسات، وهذا حقه، لكن هذا لا يعني أنه لا يملك نفس التوجه التحريري الذي يعتبر أن مهمة الصحافة هي مراقبة من يملكون السلطة حقا، وهم الملكية والمرتبطون بها كالجهاز الأمني ورجال الأعمال وغيرهم. لذلك أعتبر أن المهدوي أفلت من أيديهم، لأنه مصادر تمويله تأتي من منصة يوتيوب، فهو ليس لديه مشكل الطبع مما يتيح لهم مصادرة المطبعة أو إغلاقها، إذن مشكلة الدولة هي أن المنتقدين لم يعودوا بحاجة إلى المؤسسات الثقيلة من حيث تدبيرها وتكاليفها والتي يكون التعسف عليها أسهل من طرف الدولة، لأن النموذج الاقتصادي في هذه الحالة ثقيل وصعب، بعكس “الأدسنس” الذي يمنح نوعا من الاستقلالية المالية خصوصا بالنسبة لمن هم في الخارج، لذلك هم يلجأون إلى هذه الوسائل، كما حدث مع عمر الراضي والريسوني، التي تقوم على توجيه تهم غير مرتبطة بالمجال الصحافي والسياسي وترتبط بمجال الجرائم الجنسية وغيرها.
- متابعة الصحافيين ليست الصورة الوحيدة التي تتصدر مشهد الحريات في المغرب، فهناك عدد من المدونين على منصات التواصل الاجتماعي أو على منصة يوتيوب، واجهوا متابعات قضائية وأحكاما بالسجن، فضلا عن متابعة مدونين بتهمة انتحال صفة ينظم القانون اكتسابها، وهي صفة صحافي، كيف تنظرون لهذا الأمر؟
جوابي على هذا السؤال تضمنه جواني على السؤال السابق، أعتقد أن هذه المتابعات ترتبط بهجرة الأصوات المنتقدة من مجال الصحافة التقليدية إلى مجال الأنترنيت، وكما ذكرت هذا يطرح مشكلة لدى الدولة لأنها تخلصت من عدد كبير من المؤسسات الصحافية المستقلة، عبر قطع الإشهار وغيره، لكن هذه الأدوات غير مجدية في مواجهة الأشخاص الذين توجهوا إلى المنصات ويستخدمون البودكاست وغير ذلك، لذلك يتم اللجوء لأساليب التعسف الجديدة هذه.
- توجد في المغرب هيآت لتنظيم العاملين في مجال الصحافة والإعلام، تتضمن المجلس الوطني للصحافة، والنقابات المهنية للصحافيين وهيآت الناشرين، إلى أي مدى ترون أن هذه الهيآت تساهم في فرض موازين قوى لصالح العاملين في مجال الصحافة وتعبر عما يعتمل داخل الجسم المهني؟
أعتبر أن المجلس الوطني للصحافة، والنقابات المهنية للصحافيين وهيآت الناشرين وغيرها، أدوات لترويض الصحافيين وإرشائهم. فمن جهة الترويض، نجد هذه المؤسسات تصطف خلف موقف الدولة حين تكون هناك قضايا حقيقية تهم حرية التعبير، وهي أدوات لإرشاء الصحافيين، لأنها ترتبط بالمجال المادي، من حيث توفير بطائق القطار على سبيل المثال، وأداء الدولة لأجور الصحافيين لأن الصحافة في أزمة، وهذا استمر لسنوات.
لذلك، حين يأتي أجر الصحافي من الدولة لن يكون لديه حافز لانتقاد من يتحكمون فيها، أنا أتفهم أن هذا مصدر العيش الوحيد لعدد كبير من الصحافيين، لكن يجب أن نفهم كمجتمع أنها خطيرة، بحيث أنها ليست فقط أداة مساعدة بل أداة إرشاء الصحافيين، لأن الدولة في المغرب ليست محايدة، فلا يمكننا أن نتوقع أن تؤدي الدولة أجور الصحافيين وتترك لهم المجال للعمل بحرية، والدليل على ذلك أنه تم ترويض قطاع كبير، لا أقول الجميع، ولكن هامش الحرية الذي كان قبل سنوات تقلص.
والدولة بتعسفها لا تهدف فقط إلى ردع المتابعين، ليس فقط عمر الراضي وسليمان الريسوني والمدونين على منصة فايسبوك مثلا، بل الهدف من ذلك الرسالة التي توجهها إلى جميع المواطنين لتحذيرهم وتخويفهم. بالنسبة لا أعتقد أن انتقاد الحكومة هو ما يطرح مشكلة لدى الدولة، مع انتظارنا لمآلات ملف المهدوي، لكني أعتبر ما يزعج الدولة هو انتقاد الملكية، والتي يفترض أن تكون، في سياق ديمقراطي، أول مؤسسة يجب أن توجه لها الانتقادات، طبعا في إطار طبيعي وليس في إطار التطاول، وفتح الباب لانتقاد المؤسسة التي لها أكبر أثر على معيشهم، لكن في المغرب كل ما يهم النظام هو عدم المس بالملكية والمحيطين بها، وخصوصا الأشخاص المكلفين بالمنظومة الأمنية، وما سوى ذلك لا يطرح مشكلة. وبالتالي، فالمؤسسات التي وردت في سؤالكم، أعتبرها أدوات للتعسف والإرشاء وحماية مصالح من يحكمون البلاد فعلا.