عبد الرحمان سفير*
تعرّف “التنشئة الاجتماعية” بأنها العمليات التي تمكن أفراد المجتمع، من الولادة إلى الممات، من اكتساب وتشرب قيم المجتمع وثقافته ومعاييره ومعتقداته.
وإذا كان للأسرة دور كبير في عملية التنشئة الاجتماعية خصوصا في مراحل الطفولة الأولى من خلال إكساب الطفل المعايير الأساس المتعلقة بالتغذية والنظافة والسلوك، فإنه سرعان ما تبدأ مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى التدخل في تربيته؛ ونذكر في هذا الصدد جماعة الأقران والمدرسة ووسائل الإعلام؛ هذه الأخيرة التي تتدخل بشكل غير مباشر في بداية الأمر في شكل معلومات ونصائح تربوية توضع في متناول ذوي الأطفال، لتمارس لاحقا دورا تتعاظم أهميته خصوصا في مرحلة الطفولة المتوسطة والمتأخرة وكذا مرحلة المراهقة.
في هذا السياق، سنتعامل مع كلمتي “إعلام” و”تربية” وسنكون أمام تركيبين ممكنين لا ثالث لهما: “الإعلام التربوي” و”التربية الإعلامية”. هذه الثنائية تشكل- إن شئنا القول- صمام أمان يرتقي بالإعلام إلى مستوى المساهم الفاعل الإيجابي في التنشئة الاجتماعية، عوض أن يكون عنصر هدم وتشويش يفرض نفسه من الخارج على باقي مؤسسات التنشئة الأخرى، وعلى رأسها الأسرة والمدرسة طبعا. فما مدلول كل منهما؟ وكيف يكملان بعضهما لتحقيق تنشئة سليمة صحيحة للنشء؟
1-الإعلام التربوي
ظهر هذا المصطلح، لأول مرة، سنة 1977م خلال الدورة الـ 36 للمؤتمر الدولي للتربية الذي ترعاه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو). ويمكن أن نعرفه على أنه الواجبات التربوية لوسائل الإعلام المتمثلة في السعي لتحقيق الأهداف العامة للتربية في المجتمع، والتقيد بالضوابط الأخلاقية.
وأمام الانفلاتات الإعلامية عن جادة الإصلاح والتربية، وضعت الدول قوانين زجرية تعاقب المخالفين وتردعهم إلا أن ذلك غير كاف؛ إذ لا مناص من عامل ذاتي يكون مِجَنّا لكل وارد غمار الإعلام، ألا هو “التربية الإعلامية”.
2-التربية الإعلامية
تتحدد التربية الإعلامية بأنها تمكين الفرد من المهارات والكفايات الأساس للتعامل الأمثل مع المحتوى الإعلامي فهما وتحليلا ونقدا واستهلاكا وإنتاجا.
إن التربية الإعلامية وفق هذا التعريف، تمنح الطفل- موضوع حديثنا- وعيا عميقا أن وسائل الإعلام تمارس التأثير عليه اعتقادا وسلوكا، كما تزوده بأدوات تقييم الرسائل المباشرة والخفية التي يبثها كل محتوى إعلامي، وغربلتها وأخذ كل ما يذهب به قدما في تجويد اعتقاده وسلوكه.
فالتربية الإعلامية صارت أكثر إلحاحا اليوم- أكثر من أي وقت مضى- خاصة أن الخطر الإعلامي قد تعاظم، ولم تعد تنفع معه سبل المواجهة التقليدية المعتمدة في هذا الباب: المنع، والذي غالبا ما يفضي لخلاف المرجو منها؛ إذ كل ممنوع مرغوب، أو التنبيه الدائب المستمر بخصوص ذلك.
3- التربية الإعلامية في المقررات الدراسية (المرحلة الابتدائية/مادة اللغة العربية)
إذا ما تقصينا البرنامج الدراسي الخاص باللغة العربية للمدرسة الابتدائية بالمغرب، وجدنا التربية الإعلامية لا تحضر إلا في برنامج المستوى الخامس، ضمن مجال الوحدة الثالثة الموسوم بـ ” وسائل الاتصال والإعلام”.
يتعرف المتعلم(ة) من خلال مكونات هذه الوحدة( نصوص قرائية، نصوص سماعية، وتعبير كتابي…) على أنواع التواصل والاتصال القديمة مع التركيز على الحديث منها، كما يتلقى قواعد تتعلق باستخدامها السليم والآمن من خلال تجنب كل ما يضر بصحته؛ كالجلوس غير المستقيم أمام الشاشات باختلاف أنواعها ولفترات طويلة، تجنبا للتقوسات والانحناءات المزمنة التى تلحق الضرر بالعمود الفقري، ودرءا للالتهابات التي تصيب العين، ناهيك عن خطر الإدمان والعزلة والاكتئاب وما ينتج عن ذلك من تقصير بالغ في أداء الواجبات المنزلية، والحرمان من اللعب الصحي والمفيد مع الأقران في الهواء الطلق، وكذا عدم الاستمتاع باللحظات الحميمية مع أفراد الأسرة والعائلة.
كما يتسلح المتعلم(ة) خلال هذه الوحدة، بنصائح الاستعمال الآمن للأنترنت خلال التواصل مع الآخرين، ومنها الحرص على عدم التحدث مع أي شخص لا يعرفه الطفل، وألا يستعمل الأنترنت منعزلا، وكذا تجنب الدخول لمواقع إلكترونية لا تناسب سنه، وتفادي نشر الصور الشخصية له أو لعائلته أو مقاطع الفيديو لهم وكل ما يتعلق بحياته الخاصة وحياة أسرته وعائلته؛ كأرقام الهواتف، والعناوين الشخصية، وكلمات المرور وغيرها مما يفقده القدرة على السيطرة على خصوصيته.
لكن ماله ارتباط وثيق بالتربية الإعلامية من التعامل السليم مع الرسائل الإعلامية من خلال النقد والتمحيص وتقديم الشك حتى يقطعه اليقين، فنجده حاضرا بشكل جلي واضح في كتابي اللغة العربية المعتمدين من طرف الوزارة الوصية كما يلي:
أ – كتاب مرشدي في اللغة العربية
المتعلمون(ات) مطالبون ضمن مكون التعبير الكتابي بتحرير موضوع من خلال التعليق على الصورة الآتية:
إذا ما تأملنا هذه الصورة، وجدناها قد اختصرت آلاف الكلم، وفيها من البلاغة وحسن العرض ما فيها؛ إذ يمكن أن نحملها مواضيع التربية الإعلامية كاملة، وهي صورة يمكن أن يجعلها المدرس النبيه تنطق بكل ما تنشده التربية الإعلامية من حسن الفعل ولطيف السلوك خلال تفاعله مع مختلف الرسائل الإعلامية.
تبدي الصورة طفلة تظهر عليها علامات الشعور الاطمئنان والأمان وهي تتحدث إلى شخص آخر عبر الحاسوب مستعملة الأنترنت. تعتقد الفتاة أنها تتحدث إلى شخص وديع جدير بالثقة كأنه قط كما يظهر على شاشة الحاسوب، والحقيقة أن هذا شرير كما الوحش خلف الحاسوب قد يكون مصدر تهديد حقيقي للفتاة.
ب – كتاب المنير في اللغة العربية
يتناول المتعلمون(ات) بالدراسة، ضمن مكون التواصل الشفهي، نصا سماعيا بعنوان “الإشاعات في المواقع الإلكترونية”. وفي ما يلي الفقرة الأولى من النص:من خلال هذا النص، سيقف المتلقي على معنى الإشاعة بما هي تناقل أفكار أو معلومات خاطئة خاصة في مجال ما أو مؤسسة أو أشخاص… بهدف الإضرار بسمعتهم. وسيعري النص واقع المواقع الإلكترونية التي تعج بالإشاعات التي يصدقها الناس دونما تبيّن ولا وتمحيص لحقيقتها، بل ويتداولونها في ما بينهم مغذينها بما يدعمها من الأكاذيب. كما سيدرك المتلقي من تناوله للنص، ما تسببه هذه الإشاعات من أزمات وأضرار للأشخاص والمؤسسات من خلال انتشارها السريع والواسع النطاق بما يتجاوز حدود الزمكان بعدما كان قبل الثورة الإعلامية لا تتجاوز حدود الأسرة والعائلة أو الأصدقاء أو الحي والقرية والمدينة. كما سيقفون بجلاء على أن الإشاعة صارت في يومنا هذا صناعة قائمة الذات يربح مروجوها أموالا كثيرة.
وينبه النص على ما يشوب مواقع التواصل الاجتماعي من أخبار زائفة، واعتداء لفظي وسب وقذف وتشهير وتعد على الحياة الحميمية للغير، وكذا الترويج للرذيلة والتوجيه المغرض المضلل للرأي والسلوك العام.
ختاما، ينبغي أن نشدد على دعوتنا مؤسسات التنشئة الاجتماعية كافتها إلى الانخراط في مسار العمل على إكساب الطفل المغربي مبادئ التربية الإعلامية وقواعدها بما يحصنه ويمنحه المناعة أمام الرسائل الهدامة؛ وعلى رأس هذه المؤسسات يبقى للمدرسة الدور البالغ في هذا الباب من خلال إدراج مادة التربية الإعلامية ضمن المواد المدرسة على غرار التربية المدنية والتربية البدنية، والفنية وغيرها؛ وتخصيص مجالات بعينها لذلك ضمن باقي المواد الدراسية دون أن نغفل خضوع المدرسين لتكوين أساس ومستمر متينين في المجال.
* باحث في قضايا الإعلام