-ملفات تادلة 24-
أزمنة وأمكنة
لنتأمل مفاهيم كثيرة متداولة اليوم في لغتنا وثقافتنا ومجتمعنا..هل فكرنا فيها أم لم نفكر ؟ كيف أتت إلينا وكيف تعاملنا معها..؟تلك أسئلة لابد من طرحها حين نشرع في تداول مجموعة من المفاهيم والتصورات وحين تصبح جزءا من تفكيرنا وفاعلة في حياتنا العامة.. فهايدجر الفيلسوف الألماني يذهب إلى أن المفاهيم المهاجرة إلى عالم آخر غير عالمها الأصلي تتعرض إلى تشويه “نقائها” أثناء الإنتقال إلى سياق تاريخي وثقافي جديد من خلال “الترجمة”..فالمفهوم ينتقل أو يهاجر من مكان إلى مكان آخر..فما دلالة مفهوم المواطنة مثلا في مجتمعنا وعلاقته بمفهوم الوطنية في ثقافتنا تاريخيا واجتماعيا وفلسفيا..؟ ومفهوم الدولة أيضا ومفهوم المجتمع المدني الذي يتداول كثيرا اليوم ،والمجتمع السياسي و مفهوم الحزب ومفهوم الحداثة وعلاقته بالتقليد أو المحافظة ،ومفهوم العقلانية والحرية والأيديولوجيا والعولمة والتقنية..الخ .جهاز مفاهيمي كبير وجدنا أنفسنا نستعمله ونطبقه بعد مداهمة الاستعمار لبلداننا ونحن نعيش أوضاعا متردية خاصة، أوحين غزت “حضارة” الآخر مجتمعنا فسكنت عقول أفراده وعاداته.. كيف يستقبل ويتقاعل الفكر العربي الإسلامي هذه المفاهيم والأفكار والحمولات المعرفية والدلالات التي تتضمنها تلك المفاهيم التي اكتسحت كل مجتمعنا من دون استئذان فكرا وفنا وعتادا وتقنية.. وعبر قنوات مختلفة ؟ كيف يفكر خصوصا فلاسفتنا ومفكرونا في تلك المفاهيم؟ ما مفهوم المواطنة مثلا ، وكيف فهمه المفكرون المغاربة ؟ فبالنسبة ذ م.عابد للجابري يرى أن علاقة الفكر العربي بالفكر الأوربي، منذ بدء اليقظة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر، تتضمن مفارقة في نظره تتمثل في الظاهرة التالية: وهي أنه ما أن يبدأ الفكر العربي في اقتباس مفهوم من المفاهيم من أوروبا حتى يبدأ ذلك المفهوم في فقدان بريقه وإجرائيته ودخول مرحلة شيخوخته في موطنه الأصلي، ليقوم بعده مفهوم جديد يخلفه يدفع بالمفهوم السابق إلى سلة “الماضي”. وهكذا يجد العرب أنفسهم يطلبون مستقبلا لهم في “ماضي” ثقافة أوروبا، فتتوسع دائرة “التخلف” عندهم لتشمل ليس الحاضر فحسب ،بل أيضا البديل المستقبلي الذي يطلبون .المفاهيم لا تسير في نظره مستقيمة بل تسافر بحركة ملتوية يغلب عليها الطابع اللولبي .فماذا عن مفهوم المواطن في نظره؟ هذا السؤال في نظره يمكن أن يطرحه أي فرد يسعى إلى فهم هذا المفهوم الذي صار متداولا وبشكل كبير في حياتنا اليوم.. لكن ، وكما يقول الجابري ليس من الصعب أن تشرح مفهوما من المفاهيم أو تصورا من التصورات ويفهموك، مقتنعين أو غير مقتنعين، لافرق. ذلك لأن الاقتناع فرع من الإيمان وليس من الفهم .نحن نؤمن بأشياء كثيرة ونقتنع بصوابها من غير أن يكون للعقل دور في ذلك.إن الأفكار المتلقاة بالنسبة للفكر هي كالعادات -في نظره- بالنسبة للسلوك .فكما يعتاد المرء ما يفعله حين التدخين مثلا،(لنقل طريقته في التدخين )، إذ يقوم بحركات معينة لم يتعلمها ولا فكر فيها، يعتاد أيضا استعمال كلمات ومفاهيم تلقاها من الوسط الذي يعيش فيه ،دون أن يكون قد فكر ولو مرة واحدة في مدلولها ولا في مصدرها. فالجابري هنا يقول ذلك لأنه يعتقد أنه لن يكون من السهل عليه ولا على غيره إقناع الناس في بلداننا العربية بأن مانعنيه اليوم ب”المواطن “و”المواطنة”لا علاقة له ب”الوطن”إطلاقا.فهو يرى أن لغتنا لا تسعفنا بكلمة تؤدي المعنى الذي يحيل إليه ذلك المفهوم..وهذ الأمر لايخص العربية كلغة ،بل تعم هذه الثغرة جل اللغات يؤكد الجابري .فالنخبة المثقفة التي لها صلة بالثقافة الأوربية تفهم من كلمة “المواطن” التي يكثر استعمالها اليوم في خطابنا السياسي ما تعنيه الكلمة الفرنسية citoyen والكلمة الانجليزية citizen ، كما تفهم من “المواطنة” ما تعنيه citoyenneté بالفرنسية وcitizenship بالانجليزية. لكن ليس جميع الناطقين بالضاد، العامية أوالفصحى ،وهم الأغلبية، “الساحقة” و”المسحوقة”معا، يفهمون هذا المعنى. إنهم يربطون الكلمتين بأصلهما العربي الذي هو الوطن، ولهم الحق – اللغوي وليس السياسي- في ذلك ! ذلك أن المعنى السياسي ل”المواطن ” و”المواطنة” لا يعني مجرد الانتماء إلى “وطن” أو مجرد الاشتراك في السكنى في وطن، وإن كان لا ينفي ذلك.وعدم نفي الشيء عن شيء لا يعني أنه هو إياه. من هذا المنطلق فإن جميع العرب، في أي قطر كان هم “مواطنون” في بلدانهم، بالمعنى الذي تعطيه هذه اللفظة العربية التي يعني مقابلها الأجنبي هو اللفظ الفرنسي/الإنجليزي compatriot-e بمعنى الشخص الذي يعيش في بلد واحد مع آخرين..و لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يقول :أنا “مواطن ” بمعنى citoyen وcitizen! ذلك أن الشخص الذي يستحق أن يسمى بهذا الإسم ،هو الشخص الذي لا يدين بالولاء لا للقبيلة ولا للطائفة ولا حتى الأسرة ولا لحكم معين أو نظام معين..ومن هنا فالأمر يتعلق بثقافات سياسية وأوضاع مختلفة ذات خصوصية معينة مما يطرح الاختلاف بين “نحن” و”الآخر”..لكن الجابري يتساءل أيضا في هذا السياق: “ألا يحق لنا القول: بأنه لا “مواطن” ولا “مواطنة” في العالم العربي المعاصر؟ نعم في الوطن العربي ككل أو كأقطار وطنيون ووطنية، قوميون وقومية ،ولكي لا يقع ضحية سوء فهم من أي طرف كان ،يقول: إن ما هو مستهدف، من الخارج، في هذا العالم كمجموع وكأقطار هو الوطنية والوطنيون،”لكن ماهو مطلوب في الداخل هو “المواطنة”،دون أن يعني هذا أن المواطنة تقوم مقام الوطنية،ولا أن الوطنية تقوم مقام المواطنة.فمفهوم المواطنة الذي ينفيه الجابري عن العرب اليوم بحكم ارتباطهم وولاءهم للقبيلة وإما للطائفة …الخ، قد تحقق فعليا وبنسبة عالية جدا في في بلدان أخرى في زمن مبكر، في فرنسا وانجلترا والولايات المتحدة الأمريكية نتيجة لسيرورة معينة تتعلق بالثورات الكبرى التي حدثت فيها..فهذا المفهوم هو من منجزات عصر الأنوار في أوروبا، وهذه حقيقة تاريخية لايمكن نكرانها، ولكن هذا المفهوم يرجعه الجابري في أصله إلى اليونان ..إلى الثقافة اليونانية التي يعتبرها الغرب مهد الحضارة الإنسانية، وما عدا ذلك في نظر الغربيين لا يوجد شيء إسمه المواطنة أو الحضارة أو الديمقراطية في مكان آخر ..استعادت ثورات أوروبا في – نظره – مفهوم “المواطن” من المدينة اليونانية ،ولكن في وضعية وظروف مختلفة ،وهذا الاختلاف هو الذي سيعطي لمفهوم المواطن في الفكر الغربي الحديث معنى آخر ؛ أنبل وأشرف. وكانت المدينة اليونانية polis . هذا الطرح يمكن أن نجد شبها له عند ذ ع العروي بخصوص موقفه من وضعية مفهوم المواطن في التفكير العربي ..لكن العروي يختلف مع مواطنه الجابري في عناصر أخرى من هذا الإشكال تبعا لرؤية العروي لعلاقة الغرب بنا وبالحداثة .. فتصور ذ عبد الله العروي يؤكد بدوره للدلالة التي يحملها مفهوم “مواطن” في اللغة الوطنية، لكن بتأمل آخر للدلالات.ففي محاضرة له بعنوان “المواطنة والمساهمة والمجاورة” يرى أن ثمة اختلاف وفرق بين هذه المفاهيم الثلاثة ودرجة استعمالها من بلد لآخر ومنظر أو مفكر لآخر .فالاستعمال الحالي للفظة “مواطن” ترادف الكلمة الفرنسية والانجليزية .لكن المعنى الاشتقاقي مختلف .ولهذا الاختلاف دلالة يجدر في نظره أن نقف عنده .فمفهوم “مواطن ” في الفرنسية مشتق من المدينة، وهنا يشير العروي كما يشير الجابري إلى اليونان بالمعنى السياسي . لكن “جان جاك روسو” يقول والأمر هنا يتعلق بالطبقة البرجوازية : ” إن الفرنسيين لا يعرفون لكلمة مواطن ،دلالة غير دلالة البورجوازي،ولا يفرقون بينها وبين كلمة بورجوازي،الذي هو أول إسم مساهم في الحياة السياسية، وثانيا حالة المقيم في المدينة ،أي المواطن”.ويضيف العروي قائلا :” إنه يقال إن العربي بدوي رحال ،وأن الحضري مستقر.لكن كلمة وطن تشير إلى الأرض .في حين أن كلمة مواطن بالفرنسية هي صفة قانونية مرتبطة بالإنسان حل أو ارتحل ” . ولذلك يرى العروي أنه لايستقيم منهجيا أن ننطلق من الإشتقاق فقط ،بل بالعكس يجب أن ننطلق من الوضع الذي يحتم استعمال هذه الكلمة أو تلك.ويجب التحويم حول الموضوع من عدة مراقب حتى يتبين المقصود.هناك مفهومي “المواطنة” وهناك “الولاء” نجده في مجتمعات وثقافات كثيرة . يعتقد العروي أن هناك استحسان للأول واستبشاع للثاني وهذا تبسيط ظاهر في نظره .وهنايريد العروي أن يوضح كيف أن مفهوم المواطن والمواطنة يختلف بين فرنسا وانجلترا وبلدان أخرى لها ثقافات أخرى ونمط إنتاج سياسي آخر .إن العروي ليوضح ذلك ينتقل إلى مفهوم “المواطنة” عند أصله الأول ،ينتقل إلى هذا المفهوم في اليونان القديمة فأرسطو يقول :”المواطن هو”المساهم” في إقرار القوانين.من مجموع هؤلاء المساهمين تتكون المدينة ،أي الهيئة السياسية .والتعريف ذاته وجده العروي عند “اسبينوزا” .وانتقل إلى “روسو” الذي قال: “إن جان جاك بودان” مؤسس نظرية السيادة لم يعرف الفرق بين المواطن والساكن.كما أن “دي لامبير”في المقالة التي خصصها لمدينة جينيف في القرن الثامن عشر قسم السكان إلى طبقات،اثنتان منها فقط تساهمان في الحياة السياسية. لينتقل العروي إلى الفكر السياسي الانجليزي قائلا : “إن المجتمع الإنجليزي نشأ عن الغزو وظلت آثار التمييز قائمة لعدة قرون ،كما تدل على ذلك روايات “والتر سموت”،وكتابات “توماس هوبز” و”جون لوك”، وموقفهم من الغزو وما يترتب عنه في المواثيق الانجليزية لسنة 1215 ،من امتيازات أبناء الغزاة. وأضاف إن تاريخ الدستور الإنجليزي هو تاريخ تثبيت هذه الحقوق ليس عبر ثورة دموية ،وإنما عبر تطور سلمي أثناء القرنين التاليين .وابتداء من القرن الثامن عشر،تمازجت طبقة النبلاء وطبقة أثرياء التجار،فأصبحت الطبقة الجديدة تتمتع تلقائيا بالحقوق التي كانت للنبلاء فألغي الرق، واكتسبت المرأة بعض حقوقها،وتحسن وضع الفقراء ،وأصبح للكل حقوقا. هنا يؤكد العروي صاحب سلسلة المفاهيم وصاحب كتاب” الإيديولوجيا العربية المعاصرة” ،أننا أمام تطور تاريخي، وليس أمام تحليل نظري،كما حصل في فرنسا أيام الثورة الكبرى.وعاد للحديث عن ارتباط المواطنة بالولاء في انجلترا، وأكد أن للإنجليز كامل المواطنة لأنه مؤتمن .في حين أن غيره مشكوك فيه. فالوضع الذي كان قائما في هذا البلد كان يتصف بوجود نوعين من الحقوق : حقوق عامة يتمتع بها كل مجاور أو مواطن،نسميها حقوقا إنسانية ،وحقوق خاصة بحقوق صغيرة، وهي المعروفة بالحقوق المدنية، وهي لا تعارض الولاء بل تستدعيه. ونفس الشيء يقال عن الهنود والزنوج في أمريكا ، ورغم أن الدستور الأمريكي يؤكد أن كل آدمي يعيش مساويا لكل آدمي آخر.
وعن عبارة “الإنسان المواطن” يعتبرها العروي أنها جاءت أول مرة عند “صمويل ببوتندوف” وهو أحد المؤسسين للقانون الدولي، وتعني واجبات الإنسان والمواطن .وبعد الحرب العالمية الثانية تغير التفكير كثيرا،فالوثيقة الصادرة عن هيئة الامم المتحدة هي مجرد تعميم للوثائق السابقة،والجديد فيها أنها تجاهلت ضمنيا السيادة الوطنية..لكن العروي يلاحظ انه في هذه الأيام معارضة ضد الاستحقاق بالسيادة الوطنية بعدما كان التركيز على شرعية الثورة ضد الظلم .أي تجاهل حقوق المواطنة.وهذا يخلق مشاكل كثيرة ،والاتجاه هو ربط المواطنة بالمجموعة الإنسانية،وهذه النقطة تنبه لها “كانط ” أيام الثورة الفرنسية.فهو أيام هذه الثورة وإعلان حقوق الإنسان ، رأى أن هذه الثورة وإعلان حقوق الإنسان ، يتجاوز الدولة الوطنية.لذلك يرى العروي يتم الاعتماد على تحليلات كانط في كثير من الأحيان ..إن مفهوم المواطنة في إطار الدولة القانونية يقول العروي عنه “أن أحدنا لا يرضى لنفسه أن يكون أقل مواطنة من غيره ،دون أن يعي أن النظرية تلغيه من المجال السياسي، فالنظرية لا ترضى إلا بالمواطن حين يكون : ذكرا لا أنثى،عاقلا لا مجنونا ،راشدا لا قاصرا،فاضلا لا خسيسا،تقيالا أمينا ولا خائنا.. ومن يتحلى بهذه الصفات ينعث بالشيخ،أو الأب،أو السيد،وهو الفرد المؤسس الذي يملك سهما في الشركة التي تسمى الدولة الوطنية. الانجليز يتحدثون عن صاحب السهم (المواطن) في الشركة (الدولة الوطنية). حقوقه هي مؤهلاته .متى فصلت الحقوق عن المؤهلات فقدت النظرية تماسكها. أما “جان جاك روسو” في العقد الاجتماعي فتحدث عن مفهوم الفرد العاقل الحر والمستقل..”.ما اعتبره العروي أس الأس هو وعي الإنسان بذاته وحريته وسلطته المطلقة على نفسه. ومن لم يع هذه الحقيقة ولم يستشعرها في سره فهو غير معني بكلام روسو.أذ لا تعارض بين الحرية والمساواة ، والضامن لهذه أو تلك هو العقل الهادي إلى الفضيلة.فطبيعة الإنسان عند روسو هي السر والآية، لقد ختم الخالق على وجدان البشر. لاتعارض بين الروح و المادة ،عند هيجل واسبينوزا .إن السؤال عند العروي كيف نكيف التحليل حتى يصبح موافقا لواقع الحال …كما أنه يمكن اعتبار ان هذا التحليل النظري آلة معيارية نقيس بها المسافة بين مانعيشه وما نتخيله من مفاهيم .ووضعنا اليوم حين نقرأ “روسو” نستحسن أفكاره لكننا لا نستطيع مسايرته إلى آخر المطاف.إن الحرية يقول العروي مطلب ملح ، وأن مانعيشه هو عملية تحرير.والمساواة فرضية ممكنة التحقيق. ليعود العروي في عرضه إلى المغرب فيعتبر العروي أن المواطنة تعني المساهمة وحيازة سهم من السيادة، وليست صفة لنظام سياسي .هذه دولة مواطنين ،هذا مواطن في زمن محدد وفي دولة معينة…ليختم العروي مفهومه للمواطنة بالقول:” في أوروبا نفسها سؤال يطرح في ضوء أزمة الديمقراطية نفسها هناك وهو : من هو المواطن؟هل ذلك هو الفرد الخامل أم النشيط الذي يساعد الدولة على العيش؟كما أنه لاوجود لمفكر اهتم بالسياسة وأهمل التربية.فلا يمكن أن تكون المواطنة مع الدناءة والخسة والكذب والخيانة والتضليل.. إن الفضيلة مطلوبة في الأسرة والقبيلة وأحرى في الدولة”.
☆☆إحالة مرجعية : النصوص الواردة في المقالة هي ل ذ عبد الله لعروي من محاضرته
“المواطنة والمساهمة والمجاورة” ألقاها حين استضافته المكتبة الوطنية بالرباط والجمعية المغربية للمعرفة التاريخية يوم 3/11/2014 .
ذ. ياسين التهامي