-صالح الزرود*
كان سؤال طالبة الحقوق “حسناء” على صفحة الفيسبوك ليس مستفزا وموجها وحمال نوايا فقط، ولكنه كان أيضا – على ما به من علل لغوية _ مشروعا وجديرا بالطرح:
[أسباب إضراب المحامين لازالت مجهولة ومطالبهم غير واضحة!!].
لم أملك لجم نفسي عن التعليق على السؤال كما آخرين، بدافع من انتمائي المهني، وقد حاز تعليقي أكبر عدد من الوجوه الصفراء الضاحكة، لمحاميات ومحامين على الأرجح، كتبت مخاطبا الطالبة الحسناء:
[إسألي حتى chat gpt وسوف يجيبك!!].
كنت محقا وجادا فيما كتبت، ولكن جميع أصحاب الوجوه الضاحكة كانوا مخطئين بشأن نواياي وحسن سريرتي، فقد اعتقدوا أنني أتخذ من التهكم والسخرية ضربا من التعمية عن الجواب الصريح، غضا من شأن سؤال الطالبة وإفشالا لمساعيها، ولكنني فعلا وحتى قبل أن أخط تعليقي سألت “chat gpt”:
[ما هي أسباب إضراب المحامين المغاربة عن العمل؟]
وبسبب طبيعتي البشرية اعتقدت لوهلة أنه سوف يذكر أنني امتحنت صبره قبل أيام فقط حين افتتحت حوارا عابثا معه بسبه ووسمه بالبلادة والغباء، ولكن يبدو أن السيد “chat gpt” كامل العقل، لا يهتم للصغائر، فقد ضرب صفحا عما سلف بيننا، وأبان عن دهاء باهر فصوب ابتداءا سؤالي قائلا:
[إن المحامين المغاربة قرروا التوقف عن ممارسة مهام الدفاع]
وأضاف يبلغني رده بأدب سابغ قائلا:
[وقد كان توقفهم بسبب الاحتجاج ضدا على مجموعة من القوانين المسطرية والموضوعية التي تمس مصالحهم ومصالح المواطنين كذلك، لأنها تشكل انتكاسة حقوقية وتحد من قدرة المواطن المغربي على الوصول إلى العدالة، بل إن بعضها يتعارض مع نص الدستور ومع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، ومنها تقييد الحق في الطعن، وتقليص الضمانات القانونية الممنوحة للمواطنين.
ويهدف المحامون المغاربة من خلال هذا التوقف الضغط على حكومتهم لإعادة النظر في هذه التشريعات، وهم يحتجون أيضا من جراء التعديلات الضريبية التي أقرتها الحكومة ويعتبرونها هم عبئا ماليا غير مبرر].
استزدت “chat gpt” فزادني كلاما كثيرا لكن مكرورا حتى اكتفيت منه، وقد أيقنت حينئذ أن لا خوف علينا معشر البشر من الذكاء الاصطناعي، فكل خوارزمياته وبرامجه تظل ككل مولود جديد، عاجزة عن إنتاج قراءة بشرية فاحصة لكل ماضينا، فالسيد “chat gpt” عجز عن وضع أصبعه على أعطاب مهنة المحاماة المغربية السابقة على تاريخ ميلاده!!
فلم يخبرنا بأن المحامين المغاربة ظلوا عقودا طويلة يرفعون عقيرتهم منافحين عن [الحق والقانون] و[القضاء] و[الدستور] و[حرية الرأي] … ناسين قضاياهم الخاصة وموترين الآخرين على أنفسهم على ما بهم من خصاصة، حتى صدق فيهم المثل الدارج: (جزار ومعشي باللفت).
ولم يخبرنا أن المحامين المغاربة توقفوا بسبب نفاذ الصبر من تجاهل حكومات شتى، لأزمات مهنتهم المزمنة، وبسبب عدم وفائها بالتزاماتها المدونة بنصوص القانون، وبسبب اعتبارها مهنة المحاماة منفذ الإغاثة الوحيد غير المكلف لجل خريجي كليات الحقوق بالمملكة.
ولم يخبرنا السيد “chat gpt” أيضا أن الحديث أضحى مألوفا عن محاميات ومحامين يقطنون سنون أعمارهم بين خطي الهشاشة والفقر لا يتحولون عنهما، ويعيشون آخر كل شهر شعورا ممضا باكتئاب حاد جراء مطرقة تكاليف الحياة وسندان الديون والجبايات والتحملات التي لا تنقضي.
وهو لم يخبرنا أن المحامين المغاربة يحلمون بممارسة “المحاماة الكونية” كما قرأوا وسمعوا عنها في كل بلاد الدنيا.
ولم يخبرنا السيد “chat gpt” أيضا أن المحامين المغاربة توقفوا بعد أن رأوا رسالتهم الإنسانية تتحول إلى سلعة ذات قيمة استعمالية، تخضع لصنوف التضريب كما أكياس الحليب المبستر وعلب المصبرات وقناني المربى!!
لم يخبرنا السيد “chat gpt” أنهم توقفوا ليعلم الفاعل السياسي المتعالم بأن ظهير حوادث السير لسنة 1984 أحق بالمراجعة أكثر من جميع قوانين الشكل والموضوع، إذ لا قانون سواه يمتهن كرامة المواطن، ولا تشريع غيره يمرغ اسم الوطن في التراب.
لم يخبرنا “chat gpt” أن المحامين المغاربة بحركتهم هاته إنما يدقون جدران الخزان …!!
ولم يخبرنا “chat gpt” أخيرا أن المحامين المغاربة قد ينهون توقفهم هذا مع أول بارقة أمل، لأنهم يدركون معنى المواطنة أكثر من كثيرين، ولكنهم قد يعودون في أي وقت، وأقوى مما كان، لأنهم كذلك لا يطيقون إطلاقا نكث المواثيق والعهود!!
*محام بهيئة بني ملال
بني ملال في: 09 نونبر 2024