-نعيمة عتماني*
الدين هو منظومة متكاملة تجمع بين الإيمان والعبادة والأخلاق، ويهدف إلى توجيه الإنسان نحو تحقيق التوازن بين حياته الروحية والمادية. يمثل الدين إطارًا شاملًا ينظم العلاقة بين الفرد وخالقه، وبين الإنسان والمجتمع، وبين البشرية والكون. ومن خلال تعاليمه ومبادئه، يضع الدين أسسًا للعدالة، والتسامح، والتكافل الاجتماعي، مما يساهم في بناء مجتمع يقوم على القيم الإنسانية السامية.
يُعد الحفاظ على هذا الدين ونشر قيمه مسؤولية مشتركة بين الأفراد والجماعات، تعكس عمق الإيمان برسالة الله التي حملها النبي محمد صلى الله عليه وسلم. هذه المسؤولية تتطلب تعاونًا واعيًا يتجاوز الجهد الفردي، حيث يصبح من الضروري أن تقوم الأمة ببناء كيان مؤسسي، في شكل دولة قادرة على تطبيق مبادئ الإسلام وتحقيق مقاصده السامية في العدل والخير والتعايش.
وفي هذا الإطار، يُعد المغرب نموذجًا مميزًا لدولة ذات هوية دينية متجذرة، صنعتها تداخلات تاريخية وثقافية طويلة. لقد تشكلت الهوية المغربية على امتداد قرون من التفاعل بين الإسلام ومكونات ثقافية واجتماعية متعددة، مما أفضى إلى بناء سياق حضاري فريد يجمع بين البعد الديني والخصوصيات الجغرافية والتاريخية. لم يكن المغرب مجرد كيان جغرافي فحسب ، بل كان وما زال فضاءً حضاريًا يعبر عن انصهار مكونات مختلفة، جعلت من الدين الإسلامي أحد أعمدة هويته الأساسية.
تميزت الهوية الدينية المغربية عبر العصور بطابعها المتفرد الذي استند إلى مرجعية دينية قائمة على أسس راسخة من الفقه والعقيدة والسلوك. لقد أظهر المغاربة منذ دخول الإسلام إلى أرضهم قدرة فريدة على صياغة نموذج ديني يعكس خصوصياتهم الثقافية والاجتماعية، متجاوزًا حدود التبعية المطلقة للنماذج الخارجية. هذا التميز ليس وليد المصادفة، بل هو نتاج تفاعل واعٍ بين مكونات الفكر الإسلامي ومتطلبات البيئة المغربية.
من بين أبرز مظاهر هذا التميز تبني المغاربة للمذهب المالكي في الفقه، الذي شكل قاعدة صلبة لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والشرعية. لقد وجد المغاربة في المذهب المالكي مرونة تتماشى مع تنوع ثقافتهم وخصوصية بيئتهم، مما أتاح له أن يكون المذهب السائد في البلاد منذ قرون. هذه المرونة انعكست في قدرة المذهب على معالجة القضايا العملية والمستجدات وفق مقاصد الشريعة الإسلامية، مما جعله حجر الزاوية في النظام الفقهي المغربي.
أما على صعيد العقيدة، فقد اتجه المغاربة إلى عقيدة الإمام الأشعري، التي شكلت أساسًا فكريًا يتسم بالوسطية والتوازن. لقد وجدت هذه العقيدة صدى واسعًا في المجتمع المغربي بفضل قدرتها على تقديم تفسير عقلاني للنصوص الشرعية، مع الحفاظ على جوهر الإيمان بالغيب. هذا التوجه العقائدي ساعد على بناء وحدة فكرية داخل المجتمع، حيث أتاح مجالًا للنقاش العلمي وأرسى دعائم التسامح الفكري، بعيدًا عن الغلو أو التشدد.
وفي الجانب الروحي، اعتمد المغاربة طريقة الجنيد السالك، التي تمثل نهجًا صوفيًا يجمع بين الالتزام بالشرع الإسلامي والتركيز على تزكية النفس وتطهيرها من الأهواء. هذا النهج الصوفي لعب دورًا محوريًا في تشكيل السلوكيات والقيم الأخلاقية داخل المجتمع المغربي، حيث انعكست مبادئه في التسامح والتواضع والتكافل الاجتماعي. وقد أسهمت هذه الطريقة في تعزيز البعد الروحي للتدين المغربي، مما جعل الدين ليس مجرد التزام خارجي، بل تجربة شخصية عميقة تتغلغل في مختلف أبعاد الحياة.
لقد انعكست هذه الاختيارات في مختلف مظاهر الحياة اليومية للمغاربة، وأصبحت جزءًا من ثقافتهم العامة وشخصيتهم الوطنية وقد لخص الإمام ابن عاشر هذه المكونات في أبياته الشهيرة، التي تُجسد جوهر الهوية الدينية المغربية:
“وفي عقد الأشعري وفقه مالك، وفي طريقة الجنيد السالك.”
إن اجتماع هذه المكونات في التدين المغربي أوجد نموذجًا دينيًا متماسكًا يتميز بخصوصية مغربية أصيلة. فقد استطاع المغاربة أن يزاوجوا بين التمسك بالثوابت الإسلامية والانفتاح على العالم من حولهم. هذا المزج بين الأصالة والمعاصرة جعل من التدين المغربي نموذجًا فريدًا داخل العالم الإسلامي، يتمتع بالقدرة على مواجهة التحديات دون أن يفقد هويته.
إن الهوية الدينية المغربية ليست مجرد انعكاس للتاريخ أو الثقافة، بل هي نتاج تفاعل مستمر بين العقيدة والشريعة والسلوك. إنها هوية عميقة الجذور تعكس روح الشعب المغربي وتاريخه الطويل في التمسك بدينه، مع انفتاحه الواعي على مختلف الثقافات والحضارات. هذا التوازن بين الأصالة والحداثة جعل من الهوية الدينية المغربية نموذجًا متميزًا يحتذي به في العالم الإسلامي، حيث نجح في دمج الثوابت الدينية مع الخصوصيات المحلية، فضلاً عن استجابته للتحديات والمتغيرات المعاصرة. وقد أتاح هذا النموذج للمغاربة أن يكونوا مصدر إلهام للعديد من الشعوب الإسلامية، التي تسعى لتحقيق توازن مماثل بين الحفاظ على الهوية والانفتاح على التقدم.
*باحثة في حوار الأديان