-ملفات تادلة 24-
يتساءل ذ.عبد الله العروي في كتاباته ومداخلاته..التي عالج فيها الفكر العربي الاسلامي بمختلف مواقفه ومدارسه الفقهية والكلامية والفلسفية..يتساءل عن مدى معاصرة فكر فلاسفة وأعلام من الماضي لواقعنا.. مثلا ابن خلدون لنا، أو” نحن وابن خلدون” ، سواء موقفنا من ابن خلدون أو قضية “التجاوز” التي يناقشها ذ العروي باستمرار وهي قضية منهجية لديه في القراءة، وهو حين يقرأ نصوص الأوائل من الكتاب و الفلاسفة العرب المسلمين القدماء والمحدثين على حد السواء كابن رشد وابن سينا و الغزالي وابن طفيل، ومحمد عبده وطه حسين وغيرهم.. يؤكد ذ العروي أن ابن خلدون، لا يمكن تجاوزه إلا بتجاوز “الإطار” الذي كتب فيه صاحب المقدمة. إن العروي وهو يسائل ذلك التراث يدخل في مواجهة نقدية ومنهجية بالأساس لجملة من الدراسات والمواقف التي تتوزع بين من يتشبت بالتراث ويلتمس حلولا منه لواقعه الراهن المختلف في جوهره عن الماضي..أو من يعلي (من الإعلاء) من قيمة وشأن ذلك التراث بكل نزعة عاطفية وجدانية لا تمييز فيها بين الأزمنة والوقائع ..أومن يوظفه توظيفا ايديولوجيا وابستمولوجيا وتاريخيا..وذلك بتأويله، لجعله معاصرا لنفسه ولنا أيضا (الفصل والوصل) كما نجد ذلك في قراءة محمد عابد الجابري وفي كتابه ” نحن والتراث” وكذلك في مشروعه النقدي العام للعقل العربي الذي لا يخلو من أهمية..دون أن ننسى التأثير الذي كانت قد خلفته أو مارسته كذلك الدراسات ذات النزعة المادية التاريخية والجدلية في مرحلة تاريخية معينة (حسين مروة وطيب تيزيني وآخرين) على كثير من الباحثين والمثقفين.. يبدو أن ذ العروي هنا له قراءة مغايرة مختلفة، تشدد على الخضوع للفكر التاريخي بكل مقوماته ؛ وهذه المقومات نذكرها هنا هي التي تحدد مفهوم الفكر التاريخي عند العروي، وهي :ـ صيرورة الحقيقة ـ إيجابية الحدث التاريخي ـ تسلسل الأحداث ـ مسؤولية الأفراد (بمعنى أن الإنسان هو صانع التاريخ).
وأربعة مقومات أخرى ، تحدد معنى “التاريخانية” وهي: ـ ثبوت قوانين التطور التاريخي ـ وحدة الاتجاه (الماضي .المستقبل) ـ إمكانية اقتباس الثقافة (وحدة الجنس).ـ إيجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمان). و يبدو أن قراءة العروي تشكل “استثناء” بالنظر للقراءات المطروحة مغربيا أومشرقيا..، لا لفكر ابن خلدون وابن رشد كنموذجين بارزين حظيا باهتمام الباحثين ،بل لمجمل التراث الفلسفي العربي الإسلامي، ولإشكاليه التأخر التاريخي كما هو متضمن في كتاب ” العرب والفكر التاريخي” و”الايديولوجية العربية المعاصرة”. التساؤل الذي نريد طرحه هنا مع ذ العروي هو : أنه صحيح – كما يشرح ذ العروي ذلك – أن ابن خلدون “متجاوز علميا ومعرفيا في وقتنا الحاضر ، وهذه بديهية، إنما مجتمعيا وتاريخيا يمكن أن نتساءل أو نسأل العروي : هل هناك عناصر استمرار في هذا المجتمع والمجتمعات التي تحدث عنها ابن خلدون ، ماهي بعض مظاهر هذه العناصر ، وبالتالي ماهي القيمة المعرفية لابن خلدون ، إذا كان هناك استمرار تاريخي واجتماعي؟.
بالنسبة للعروي، وأنت تطالع قراءته لفكر ابن خلدون أنه من الضروري أن نجزئ السؤال أعلاه الذي طرحناه إلى أسئلة : السؤال الأول ، وهو هل يمكن استعمال ما جاء في المقدمة لفهم أحداث التاريخ في الماضي المغربي بمعنى المغرب الكبير ،والحاضر ؟ يجيب العروي نفسه أنه هناك في نظره مواقف متعددة في هذا الشأن. ففيما يخصه يعتبر العروي أن كتاب المقدمة، ليس كتاب مقدمة لعلم التاريخ ،فقد كتب ذلك ، ويعتبر أن ذلك قناعته وموقفه، فكتاب المقدمة لا يفسر لنا أبدا تاريخ المغرب، بل العكس تاريخ المغرب ،هو الذي يفسر المقدمة. فلنفهم كيف توصل ابن خلدون إلى كتابة تنظيره ،يحب أن ننظر الى الظروف التاريخية التي مر بها المغرب في القرون السابقة له،لأن ابن خلدون وضع علما جديدا هو علم العمران ،الذي هو علم عام، يتعلق بالعمران كيفما كان نوعه ، والذي يمر من البداوة إلى الحضارة ،أو أكثر من ذلك يمكن – في نظر العروي- أن نقول أن ابن خلدون أعطى نظرية لبداية التاريخ بالمعنى الذي نقول به تاريخ، أي التاريخ المكتوب، تاريخ الحضارة ،وتاريخ المدن، أي المرور من ما يسمى ما قبل التاريخ إلى التاريخ، لكنه لا يعطينا ابن خلدون نظرة كما يقول العروي عما جاء بعد ذلك في داخل التاريخ نفسه. والدليل على ذلك أنه هو نفسه يستعمل بعض ما جاء في المقدمة. لكنه وكما يلاحظ العروي أن ابن خلدون لا يستعمله بكيفية منهجية ودائمة.
يقول العروي في هذا النص ، وهو يشرح معنى “التجاوز” ..أي هل تجاوز ابن خلدون الماضي؟ :
★ (( لا أعتبر أنه أي ابن خلدون يفسر لنا الحاضر، بالتالي لا أعتبر أن مشكلة التجاوز قائمة أو غير قائمة ،لماذا؟ بما أن ابن خلدون يتكلم في العمران العام لا يتكلم في تاريخ المغرب بكيفية خاصة،فلا يمكن لنا أن نتجاوز العمران،إلا إذا انتهى العمران، فما دام هو يتكلم لنا عن كيفية المرور مما قبل التاريخ إلى التاريخ ، وهذه قضية تاريخية ، لكن بالنسبة لجميع الإنسانية، ما دام يتكلم لنا عن هذه الأشياء، فهو لا يتكلم لنا عن المجتمع الذي نعيش فيه ومشاكله، إذن بالنسبة إلي عندما أقول لا يمكن تجاوزه ، فهذا يعني – إذا قبلنا المفاهيم الأساسية التي ذكرت، وهي العصبية والملك والطبيعة والضرورة الخ…إذا قبلنا هذه المفاهيم – وهي مفاهيم مسيقة، لا أقول أنها مفاهيم استقرائية ، أي استخرجنا ابن خلدون من دراسة التاريخ ،بل أقول أنها مفاهيم تحليلية استخرجها من موقفه المعرفي – إذا قبلنا المفاهيم الأساسية ، مفهوم العصبية كواقع، مفهوم الضرورة كحتمية واقعة، فلابد أن نصل الى نفس النتيجة التي ينتهي إليها ابن خلدون، وهي أن العمران يبتدئ بكذا وينتهي بكذا و لا إصلاح له ولا رأب لأي فساد إذا حل ، أي نصل الى كل القوانين التي استخرجها ابن خلدون ،فحينئذ في نظري : القضية الأساسية التي يجب على كل واحد أن يجيب عنها هي: هل ابن خلدون منظر للتاريخ أو منظر لشيء آخر هو بداية التاريخ ؟ بداية التاريخ أو نتيجة التاريخ فهو نفس الشيء أي العمران القائم ،فإذا كان ابن خلدون هو منظر العمران بكيفية تامة فحينئذ لا يمكن أن يعطينا تفسيرات علمية لظروف عابرة ، وهي مثلا انحلال الدولة في القرن الرابع عشر في المغرب أو وصول الشرفاء السعديين إلى الحكم أو دخول التجارة الأوربية، أي المشاكل التاريخية القائمة. أما ما يمكن أن يقال بأننا نجد بعض الملاحظات حول تطور التجارة ،حول ضعف الطبقة التحارية، هذا صحيح ،ولكن هذه الملاحظات يمكن أن نجدها عند مؤلف آخر أقل قيمة من ابن خلدون ،بحيث لا يجب أن نرجع الى ابن خلدون ، بل عند بعض الفقهاء نظريات في الفتاوي الفقهية ، نظريات حول هذه المشاكل التي هي في بعض الأحيان مهمة جدا لا تظهر لنا في شكل نظرية عامة حول العمران .)).
نتساءل هنا مع العروي .وماذا عن مصطلح ” مستقر العادة” و”طبائع العمران” ، والطبع كما نعلم هو مفهوم أرسطي ، عند ابن خلدون؟ هل يمكن القول أن ليس هنالك فكر وضعي حينما يتحدث ابن خلدون لا عن علاقات بين الظواهر وإنما بخصائص يسميها ابن خلدون نفسه أعراضا ذاتية . يجيبنا العروي وبوضوح تام وتحليل دقيق للمفاهيم ..حول مفهوم الحتمية مثلا عند ابن خلدون قائلا :★((…قلت ،أنه ليس حتميا بالنسبة للكون، ولكنه هو حتمي فيما يتعلق بالعمران فكأنه يقول هناك ميدان الحتمية وهاهو ، فأبين تماما حدود هذا الميدان، خارج هذا الميدان هناك القدرة الإلهية لها قوانين أخرى ، قوانين الحكمة ، يمكن لبعض الأشخاص أن يطلعوا عليها عن طريق الكشف، لا عن طريق العقل. فهو يعترف بها ولكن يتركها جانبا، المهم عنده أنه يحدد الميدان الذي تشتغل فيه الحتمية.أما كونه استعمل كلمة حتمية أو لم يستعملها فهذا لا يهم، لأن المهم ليس المفهوم في حد ذاته، بل المهم هو المنظومة ويسميها “مستقر العادة” أو ” لن تجد لسنة الله تبديلا”. هذه تعابير، ولكن المهم هو منظومة الأفكار، منظومة المصطلحات، فهذه المنظومة وأكثر من ذلك كما قلت هو الموقف الذي يمكن أن يعبر عنه بكلمات مختلفة ويكون واحدا، الموقف أنك ترى المجتمع وتفصله عن الفرد، أما الأفلاطونيون بما فيهم هيجل وبما فيهم الرومانسيون يجعلون الفرد داخل العقل والمجتمع، بل وداخل الطبيعة. الموقف العلمي هو أنك تفصل الشيء المدروس. وهو هنا العمران، عن الذهن الفردي. ابن خلدون مثلا يريد قيام الخلافة، لكن لا يقول هذه هي الطرق التي يمكن أن نصل بها الى الخلافة كما كانت أيام الخلفاء الراشدين، لا يقول ذلك، لأنه يميز بين ما يريد هو كفقيه، وكقاض متقيد، تماماً بالموقف السني المالكي، وبين دراسته للمجتمع التي ينفصل فيها عن كونه مؤمنا بل عن كونه عربيا، بل عن كونه مسلما. وهذه هي الظاهرة العجيبة والغريبة التي تدفع حقيقة إلى الاهتمام بابن خلدون والإعجاب به الإعجاب الحقيقي. كونه مثلا يقول أنه كيفما كان الحال، القدرة الإلهية قادرة على إظهار “مهدي” ولكن قوانين المجتمع تلغي إمكانية ظهور مهدي عربي، معنى ذلك أن ذلك غير متعلق بما يريده هو كمسلم وكعربي، غير متعلق بما يهفو إليه، فهذا شيء، وما يحتمه عليه العقل شيء آخر، هذا هو الموقف الذي قليلا مايصل إليه العلماء والباحثون من أي جنس كانوا.))
ومن جهة أخرى نستمر و نتساءل مع ذ العروي ..لماذا دراسة الماضي، لماذا الاهتمام بابن خلدون بالذات من جانب الباحثين؟ يجيبنا ذ العروي حاسما في موقفه وغير متردد كما هو الشأن في كل كتبه : ★ (( من ناحية قلنا أن ابن خلدون في تاريخه وفي المقدمة ذاتها يعطي بعض الأحكام الجزئية التي تعيننا كمؤرخين وكملاحظين في فهم بعض الوقائع التي هي وقائع تاريخية مازالت قائمة ، مثلا إذا كان في بعض المجتمعات العربية واقع العصبية قائم ، فطبعا ما يقوله ابن خلدون يمكن أن يفيدنا .لا يمكن أن نقول أن ابن خلدون تكلم عن العصبية ، وبما أن المجتمع العربي هو المجتمع الذي تكلم عنه ابن خلدون ، فإذن المجتمع العربي هو أساسا مجتمع العصبيات ، أقول : لا . لا يمكن أن نستخرج الواقع من ابن خلدون. يجب أن نرى الواقع كما هو وإذا كان هناك تطابق بين هذا الواقع والواقع الذي عاش فيه ابن خلدون يمكن أن نستلهم بعض الأحكام الجزئية من ابن خلدون، أظن في هذه النقطة واضح.. كذلك بالنسبة للماضي يجب أن ندرس تاريخ الماضي بالمنهجية العلمية المعروفة المتواضع عليها الآن، فإذا كان هذا التاريخ الواقعي قد أظهر لنا وجود مجتمع يماثل مجتمع ابن خلدون، فحينئذ نستخلص من ابن خلدون بعض العبر في دراسة التاريخ، لكن بعد أن ندرس هذا التاريخ بكيفية مستقلة حتى بالنسبة للماضي لا بالنسبة الحاضر فقط، فلذلك كملخص أقول: الأحكام الجزئية لابن خلدون، إذا توافقت الظروف في الماضي وفي الحاضر تصلح لنا، ولكن الشيء الذي سيبقى مهما بالنسبة لنا هو “موقف ابن خلدون المعرفي فقط.)).
ذ. التهامي ياسين
إحالات مرجعية :
اعتمدنا في بناء وانجاز مقالتنا التي استهدفت تحديد موقف العروي من فكر ابن خلدون على :
★ العرب والفكر التاريخي ذعبد الله العروي دار الطليعة بيروت .
★ حوار حول الفكر الخلدوني 1986 (منشورات جريدة الاتحاد الاشتراكي.)..شارك فيها نخبة من الباحثين المغاربة والمشارقة.نذكر أساسا حوارات ذ محمد سبيلا وذعبد السلام بنعبد العالي.و ذ محمد وقيدي ..مع ذ عبد الله العروي
★بين الفلسفة والتاريخ ذ عبد الله العروي ترجمة عبد السلام بنعبد العالي. ط 2020 ..