العقل الساخر ..

-ملفات تادلة 24-

    وأنت تتصفح تدوينات العالم الأزرق، والصور والرسوم الكاريكاتورية المعروضة، والفيديوهات المبتوتة فيه..لا شك أنك تلاحظ أن ثمة نبرة قوية تحضر باستمرار في معظم تلك الأشكال من التعبير والتواصل والمواقف المختلفة؛ هي نبرة “السخرية “و”النقد”.. بكل تأكيد، تحمل نقدا ضمنيا أو معلنا عنه ،نقدا ساخرا ممزوجا بالتهكم أحيانا والترميز أحيانا أخرى..قد نصادف مواقع معينة تلتزم بالتحليل وتقديم المعطيات حول موضوع ما..ولكن في كل وسائل التواصل الاجتماعي تحضر السخرية كشكل من أشكال النقد والتحليل..ولذا أصبحت أسلوبا في التعبير لا يمكن أن ينكر حضوره أحد، ومن هنا فالسخرية باتت ملاذا للكثير من رواد ومستعملي هذه التقنية الجديدة من التواصل في قراءتهم للواقع وظواهره وأحداثه وغرائبه ومفارقاته..ولسنا هنا بصدد تحليل محتوى وملامح وخلفيات تلك السخرية المعروضة في وسائل التواصل الاجتماعي وطبيعتها، وهل تمارس هذه السخرية في هذا الفضاء الرقمي دورها بالشكل الذي نجده عند ممثليها وروادها وفلاسفتها..؟ هو موضوع تجدر دراسته ولن يخلو من فائدة..ولكن نريد أن نقف قليلا على مفهوم السخرية وبعض من ملامح الفكر الساخر كما تجسدت في مواقف معينة من الإنتاجات الفكرية الإبداعية الإنسانية، وعلى اختلاف مجالاتها..ووجب السؤال بدءا عن مدلول السخرية كفكر والعقل النقدي الثاوي فيها واستراتيجيته في المواجهة والمقاومة..أمكننا القول أن السخرية عرفت انطلاقتها التاريخية مع سقراط الذي لم يخرج عن آغورا المدينة كما أعتادت الكتب أن تشير الى ذلك ، هدفها الأساس خلق حيرة وارتباك لدى محاوره في ما يبدو  لهذا المحاور حقيقة مطلقة، فهي كاستراتيجية تعتمد السخرية بمعنى من المعاني، لكن يبقى التهكم هو الغالب عليها ،تقوم على السؤال المنطوق والشك المستمر والإرباك وركوب الحوار والجدال ونهج طريق النقاش المستفز..إرباك المحاور في كل ما يحمله من حقائق يزعم أنها مطلقة وسليمة ولا يطالها الخطأ .. ومن هنا فالفكر مع التجربة السقراطية فكر “يسخر” متهكما من وهم الحقيقة ،ويفضح شفافية الوهم ويستغل على المفاهيم والألفاظ وتلاوينها..وفي كتابه “جرح الكائن” يقف ذ بنعبد العالي عند مفهوم السخرية كمقاومة للبلاهة la bêtiseفي زمن يعرف تغيرات هامة تهيمن التقنية فيه على كل شيء ،وتبسط لغتها وأسلوبها في الفهم والانفتاح والسرعة والحساب الرياضي واتخاذ القرار، وغدت التقنية في زمن الحداثة شكل من أشكال الحقيقة ،وكيفية من كيفيات الوجود، فالتقنية كما يتحدث عنها هيدجر، ليست هي الأشياء والمخترعات والآلات التقنية ،بقدر ما هي ذلك الموقف التقني La position technique .

إنها موقف وميتافزيقا، أي نمط لعلاقة الإنسان بالأشياء المحيطة به. تحدد علاقة الإنسان بالعالم والأشياء والآخرين ..وترسم العلاقات الاجتماعية وكل العلاقات الأخرى بشكل آخر ومغاير لم يعهده الإنسان من قبل، وأن الفكر في هذه الأجواء وأمام أشكال من الفكر أخرى جديدة تجرد الإنسان من إنسانيته وتسلب حريته..، ذلك أن التقنية الحديثة مجموعة من القدرات تخضع لمنطقها الداخلي، وتتطور بفعل حاجاتها نفسها لا وفق رغبة الإنسان ،وتهدد الإنسان باستمرار بالانفلات النهائي من قبضته، بل بالإرتداد عليه. فحولته الى لعبة قابلة للتسخي، مثلما حولته إلى “حيوان أو بهيمة شغل”، وقدفت به في عالم كل ما فيه تقني.

 أمام هذا الانقلاب الذي حول علاقة الإنسان بالكائن عامة وعلاقته بماهيته ..طرح السؤال بقوة ما الإنسان؟ من هنا برزت مواقف متدمرة يسكنها الرفض والاستياء إزاء هذا الوضع الأنطولوجي الكوني، فعبرت عن ذلك بأساليب مختلفة لعل أبرزها السخرية وفي أوج معانيها. لقد غدت البلاهة بمعناها الجديد بعدا جديدا ملازما للوجود البشري. وحيث ستزداد الأفكار الجاهزة انتشارا مع تقدم وسائل الإعلام، ويتسع مجال اللافكر الذي تنطوي عليه..نلاحظ ذلك في كتابات م. كونديرا الذي يجسد ذلك بقوله:” الكيتش يدل على موقف ذاك  الذي يود أن ينال إعجاب أكبر عدد من الناس وبأي ثمن .لنيل الإعجاب ينبغي للمرء تكريس ما يود الجميع سماعه، ينبغي أن يكون في خدمة الأفكار الجاهزة .الكيتش هو ترجمة بلاهة الأفكار الجاهزة إلى لغة الجمال والوجدان”.  لقد تطلب هذا لفضحه وتعريته نهج مقاومة ساخرة تفضح” الجدية الكاذبة” للبلاهة و إبراز كيف أمسى كل شيء بدون معنى ولا قيمة. لكن يجدر بنا أن يتساءل المرء عن السخرية كمفهوم أو العقل الساخر كأداة واستراتيجية؟ إن عبد الكبير الخطيبي الذي يمكن اعتباره كاتبا مغربيا ساخرا، حيث مارس الفكر الساخر بطريقته في كثير من أعماله. ولعل مؤلفات  “الفكر المزدوج” والذاكرة الموشومة”، وأخرى..ذات قيمة فكرية رفيعة.

لقد اهتم بالسخرية كفكر تحليلي تفكيكي نقدي ..وكاستراتيجية تهدف الهدم وإعادة البناء بغية الفهم والحقيقة..لقد تساءل وهو يواجه نصوصا ومواقف مختلفة السؤال التالي 🙁 كيف نفضح تناقضات نص ما ؟ فيجيب : بالسخرية، إنها السلاح النقدي الحاد. السخرية بالتعريف، هي نقيض الوثوقية والفكر الدوغمائي، فإذا دفعنا بالنص الوثوقي الى حد الهذيان، فإنه يبعث فينا، بالرغم من الهدف الذي يرمي إليه، قهقهة لا تمتلك معها أنفسنا. بل إن باستطاعتنا أن نقول بأن الوثوقية إذا نحن كشفنا عنها فإنها تنحل الى ضحك وتسقط في العدم..). وإذا كان البعض يقر أحيانا بصعوبة تحديد السخرية كعقل نقدي، إذ يعتقد أن كل تحديد معين لمفهوم ما يقتضي نفيا فتمييزا فتقسيما فتبويبا كما يذهب الى ذلك الباحث عبد السلام بنعبد العالي، فإن السخرية أو هذا العقل الساخر هو نفسه يسخر من صرامة التعاريف وجدية التنظيمات ومطلقية الأحكام وجاهزية المواقف..الخ، ومهما يكن فثمة مميزات وملامح للفكر الساخر. إن السخرية كعقل وفعل مقاوم..يمكن الوقوف على أدوارها وتجلياتها في تاريخ الفكر الإنساني ..فالسخرية هي اقتحام للفكر الجامد، واختراق له، ومقاومة لألاعيب “اللافكر” الذي له قدرة على التشبه والتغليط والتزييف ..، لزرع وهم التشابه وخلق الشبهات، وذلك لقتل المعنى وتغييب الحقيقة..هذا اللافكر هو موضوع العقل الساخر الذي يتصدى له لفضحه والكشف عن أدواره التي تهدف الى مسرحة الحياة، وخلق مجتمع الفرجة..إن العقل الساخر وهو يواجه اللافكر، ويقاومه ويفضح ألاعيبه ،فإنه في مواجهته ومقاومته تلك يرفض الإبانة والمباشرة في أسلوبه، والوضوح والصرامة في لغته وإيماءاته وتلميحاته واستعاراته..ولذا فهو يلجأ الى الترميز والإيماء؛ وأحيانا يتبنى هذا العقل الساخر الغموض والتلبيس أحيانا، ليفسح المجال للمتلقي/القارئ أيضا للقيام بقراءته التحليلية، وليفك شفرة العمل الساخر ويسبر أغواره.. وهكذا فالعقل الساخر النقدي يغلب كفة الشك على اليقين، والسؤال المستمر على الإجابة الجاهزة، وينتصر للخلخلة وإعادة البناء..إنه يستقي عناصر عمله من الحدث نفسه الذي يشتغل عليه ويواجهه، لكنه يرفضه في ذات الوقت، وهو في ذلك لا يتبنى أداة منهجية خارجية تفرض على الموضوع، بل إن عمله يستقيه -كما أشرنا- من صميم الأحداث والظواهر والمواقف المعروضة والجارية في الواقع، والتي يشتغل على أساليبها في المناورة والالتفاف والتزييف..وأيضا على مبررات وجودها، وخلفياتها..من هنا يعرف الخطيبي السخرية في مجال الأدب مثلا، أو الكتابة الساخرة النقدية المستمرة بأنها “خلخلة للوجود” أو “هي تلك الخفة البلورية على حد تعبيره لذلك الذي يضيع فيقوم كل مرة ضد وهم حقيقته”.

 العقل الساخر لا يتوقف في الحقيقة عن سخريته، إنه يسخر باستمرار، يسخر من “قدراته وقوته” نفسها..لكن ذلك لا يعني أنه عقل مستهتر لا يعبأ بشيء، أو يميل إلى العبث واللهو واللامعنى في الحياة..إنه على العكس من ذلك عقل مأساوي أحيانا، أوهو دوما مأساة ساخرة أو سخرية مأساوية .كما هي في أعمال صمويل بيكيت المسرحية حيث الفكاهة والسخرية اللاذعة ممتزجان لمواجهة اللامعقولية واللامعنى للحياة.. فالثنائيات المعهودة التي تعتمد في مجال المنطق الصارم أو أحكام العقل المنغلق المطلق..توجد بالنسبة للعقل الساخر قيما أخرى تتوسطها، ومن هنا يمكن اعتبار العقل الساخر عقل مفارقات ،إنه يضع نفسه “وراء الصواب والخطأ” ،والمتلقي أو القارئ يصبح دوما في كل الأعمال النقدية الساخرة شريكا فاعلا منخرطا ورفيقا لصاحب النص الساخر “قراءة ومتعة خاصة”، متخلصا من سلطة القوالب الأيديولوجية الجاهزة والمنمطة ..الى جانب المتعة التي يستشعرها القارئ في النصوص الساخرة كما هي موجودة مثلا في أعمال “جيمس جويس” حيث تتضافر المتعة  مع ارتعاشة الممكن التي تهز القارئ والاستعارات المختلفة والأساطير التي تفتح صدره على حرية مفرطة، نجد أيضا المرارة واليأس المطلق كما هو واضح في أعمال فرانز كافكا التي لا تخلو من قيمة أدبية ورسائل فلسفية قوية.

 وفي هذا الصدد يلزم أن نوضح فرقا رفيعا بين التهكم والسخرية، فيمكننا القول أن التهكم يتهكم دوما عن ادعاء، صريح أو ضمني . المتهكم شخص يشعر دوما أنه من “سلالة استثنائية”. فهو لا يتهكم على نفسه. ليس هناك تهكم انعكاسي réflexif على عكس السخرية التي تسخر من نفسها قبل كل شيء فما يهمها هو الكل، هو الحصيلة، هي الأمور وقد تشابكت وتعقدت فغدت قابلة للانكشاف والفضح. التهكم يصدر عن إحساس بالقوة والتميز والامتياز..وهو دائما في موقع من يتصيد نقاط الضعف لينتزع الثقة بالنفس. وإذا كان سقراط يجيد فن نصب الشرك وإيقاع الضحية وفن توليد الإحراجات dilemmes.فإن السخرية فهي فن توليد المفارقات paradoxes.إن السخرية مجال المفارقات إذن: وهي في الآن نفسه مرح ومأساة، سكون وحركة، معنى ولا معنى، شك ويقين، عقل ولا عقل..ولعل فريدريدرك نيتشه نجد عنده كثيرا من مواصفات الفكر الساخر بهذا المعنى وذلك في كتابه “العلم المرح” ومؤلفات أخرى.. فعندما نادى بإزعاج البلاهة ومقاومتها لم يكن يأمل “القضاء عليها قضاء مبرما”، وعيا منه بمكر التاريخ وتيه الوجود ..ولكن بلورة فكر -مضاد يحدث شروخا في عالم ينحو نحو التنميط والتبله والتخشب ..وكما يقول جيل دولوز عنه :”إن الذين يقرؤون نيتشه من غير أن يتملكهم الضحك، الضحك الشديد، الضحك المتواصل، هؤلاء كما لو أنهم لا يقرؤون نيتشه”.

ذ.التهامي ياسين




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...