ـ صالح الزرود*
إبتليت -يا سادتي- منذ الصغر بكتابة شيء من هذه القصص والحكايات، ولكنها كما تعلمون خليط: نزر يسير من الحقائق وكثير من التوهمات، ولأنني رأيت أنكم معشر القراء ما تزالون -قدامى مثلي- و الكاغد (الورق) تقرؤون، فلن أضيع وقتكم الثمين بسرد شيء من هذه التأملات والظنون، وسوف أسمعكم قصة واقعية يا سيدات ويا سادة، كما تلقفتها حرفيا من لسان من لست أكذبه عرفا ولا عادة !!
فأصيخوا السمع، فإني متحدث:
في زاوية شارع “المامونية” إلتقى المواطن “صابر” ب: “مشروع قانون المسطرة المدنية”، كان اللقاء عفوا، عابرا، دون ميعاد، بتدبير إلهي صرف، تلاقت أعينهما فجأة، فحث “السيد المشروع” السير وأطلق رجليه للريح، فهو في حضرة الناس واللغط والزحام أبدا لا يستريح، لكن “صابرا” ابتدره بالسلام وقائلا مد حبل الكلام:
_ سيدي المشروع الأعز، إنه لشرف قلما ينال، أن ألقاك وأسعد برؤية محياك، فأنت وما أدراك ما أنت، أسرع من رجع العطاس، وأشد من ثلم الفاس في الراس!!
رسم “السيد المشروع” ابتسامة بلهاء على محياه و باستغراب فاه:
_ شكرا وافرا لك أيها المواطن، وإن كنت لا أدري أمدح ما قلت في أم ذم!؟
أجاب “صابر”:
_ بل مدح صراح وإطراء!! ألست “شريعة التقاضي العامة”، ألست “سيد القوانين الإجرائية”، وفوق ذاك ألم تحز من أصوات نواب الأمة على الأغلبية، دون بالغ جهد منك أو كثير حمية، صوت عليك منهم مائة ونيف في مثل سرعة السيف، فما أشد بأسك وما أسرعك وما أقدرك!!
_ وما ضرك أنت في قبولي أيها المواطن، أليس النواب نوابك، أترى أحد جرك على الأرض حين انتخبتهم من ثيابك!؟؟
ماذا ضرني!؟
أنا يا سيدي الفاضل لم ولن يضرني شيء، فأنا منذ أنهيت دراستي، مزقت كراستي بعد أن خطت الدروب بحثا عن عمل، وشمست نفسي طويلا دون أمل، وأنا الآن حلس بيتي، منزو عن الناس، ولم ألج محكمة ولن ألجها ما لم يجهل علي أو عرضي يداس، لذا تراني لست من أمرك في وجل، وسواء عندي أن تبقى أو تزل!!
كل ما في الأمر أنني قبل يومين جلست إلى صديق لي محام، فبالغ في الملامة، وأقام القيامة، ووسمك ب: “الخطر الداهم”، وألقى كلاما ثقيلا حتى قال:
أنك تضرب في الصميم قيم الحق ومبادئ القانون، وتبخل على المعوزين وتنتصر للأغنياء والمترفين، وأنك -في كبر- حفي بما تصنع، وأنك إنما تضر ولا تنفع، وأن سلفك الطاعن في السن [قانون المسطرة المدنية] خير منك وو …وقد رطن صديقي موادا وذكر فصولا على مسمعي انهالت لها أدمعي!! وكان آخر ما قال: (تمخض الجبل فولد فأرا)!!
أرغد “السيد المشروع” وأزبد، وانقلب لونه من الفاتح إلى الأسود، وصاح:
_ محام مرة أخرى !! أولئك قوم لا يستحون، وعن سيرتهم لا يتحولون، لا يعجبهم العجب، ويدخلون ألسنتهم جحر ضب، تراهم تارة يقفون ويصرخون، وأخرى يضربون أو شارة حمراء يعلقون، عن كلامهم يا هذا – وأنا لك ناصح – إضرب صفحا وإطو كشحا، فقبل أيام فقط قال رئيس جمعيتهم كلاما مثبورا، فرد عليه وزير عدلنا وكان منصورا، وإن ظلوا على هاته السيرة سوف نقلب لهم ظهر المجن، ونآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم، حتى يقولوا مع العرب: [في الصيف ضيعنا اللبن] !!
لم يبدو أن في نية “السيد المشروع” أن يمسك لولا أن “صابر” قاطعه مهدئا:
_ رويدك يا سيدي، إنما أريد منك في هذا المقام بيانا لحالك، وردا شديدا يفحم خصومك هؤلاء ويوردهم المهالك !!
تمتم “السيد المشروع” في استسلام:
_ ولو أنني مشغول، ولا تهمني لا أنت ولا حتى عشرات الفلول، قل ولا تطل!
_ لن أطيل سيدي المشروع، سوف أختصر لك الموضوع، يقول صديقي هذا المحامي:
أنك بسطت يد النيابة العامة في العمران والإنسان، فغدا من حقها أن تثير ضد جميع الأحكام النهائية طلبات البطلان، في أي مكان ومهما انصرم من زمان، ففلان مثلا أو علان ليس يملك ما قضى به لفائدته القضاء، ولو استنفذ جميع درجات التقاضي وناله فيها العناء، عليه أبدا أن يخشى التصرف فيما له، فله حق وليس له، هو يملك ولا يملك، إذ أن آماله وأمواله قد تتحول الى سراب، وقد يفتح عليه طلب شارد في أي وقت باب العذاب!!
ويقول صديقي أن “الولوج المستنير للعدالة” سوف يصبح مثل [العنقاء] أو [الغول]، مجرد حيوان خرافي أو أسطورة، بعيدة المنال غير منظورة، فإذا ما أنا -لا قدر الله- قصدت القاضي لظلم بي أو بلاء، فحكم في حقي بعدم القبول أو رد الطلب على السواء، سوف تغرمني الدولة مالا، فأغدو حقي لم أنل، ومالي بجيبي لن يظل.
ويقول صديقي: أنك ناصبت المحامين العداء وابتدعت تشريعا يجعلهم – وهم العارفون بالقانون- وعامة الناس سواء، فبالله عليك من هذا الذي أسميته [الوكيل] !؟وأوقفته في منصة الدفاع دون إجازة في الحقوق أو أهلية في المحاماة أو زكاة علم أو دليل، من أين به أتيت؟ وأي مأرب وغرض به نويت؟ أليس هذا الرأي يرجع القضاء القهقرى ألف ميل وميل، ولعله يبلغ به عام الفيل!!
ويقول صدي….
هنا عيل صبر “السيد المشروع”، فوثب سيء المزاج، منتفخ الأوداج، وقال مغضبا:
_ يقول صديقي .. يقول صديقي … ما بال صديقك ..
لكن “صابرا” كان على غير مسماه، ونفسه الحماس أنساه، فقاطع خصمه بحزم:
_ حسبك يا مشروع، أنا على وشك الإنتهاء ولك أن تبدي بعدئذ من الآراء ما تشاء!
يقول صديقي: أنك فرقت الناس، وكان ما يملكون هو الأساس، فأدناهم دركا لا يجاوز المحكمة الابتدائية، فهو ينازع في قيمة متهاوية، لا تفوق ثلاثين ألف درهم مغربية، ويليه رتبة من مددت لهم في التنازع مدا رقيقا ليجدوا لمحكمة الاستئناف طريقا، وأسعدهم المرضيون الذين محكمة النقض يدخلون، ودرجات التقاضي يلجون، وهم فئة قليلة لا يعدون.
ألست يا سيدي معنا تعيش، وتعلم خلو الجيب، وسعار الأسعار هذه الأيام، وخفة الأجور، وشظف المعيش!؟ وتعلم أن أغلبنا يعيش على التلفيق، فلم كل هذا التضييق!؟
عدل المشروع من وقفته، وأحد من لهجته، وبعنف وغضب وفراغ صبر ألقى خطبته:
_ إسمع يا هذا: أسئلتك كثيرة، ولمزاتك خطيرة، قد أذقتني من المطاعن عسرا، ونقلت عن محاميك قولا خسرا، وأنا في عجلة من أمري، وليس لي وقت أفضي إليك فيه بعجري وبجري، ولست وراء رضاك أو سخطك أجري، ففي المجلس ينتظرني مستشارون، سوف يقولون في حقي قولهم الأخير لأنظر إلى ماذا أصير، لكنني فلتعلم قرير العين، مطمئن البال، إذ ليس في السياسة محال، وليس فيها محام كمحاميك، الذي ملأ عقلك أوهاما وأصم أذنيك، وإذا أرت أن تعرف ما يرضيك وعن جوابي يغنيك، فضغطة في اليوتيوب و[كليك] تكفيك، وستجد محاميا فذا لا يشبه محاميك، قوي الحجة، رصين التحليل، كثير الدهاء، فهم عني ما لم يفهمه أعظم فقهاء القانون، وبز من هم بالشرائع عارفون، بين تحليلاته الرصينة وشعارات محاميك ألف بون، هو زميل، وفوق هذا وزير عدلية، لا يشبهه أحد في حسن الطوية.
قال “السيد المشروع” ذلك وحث خطاه، لكن “صابر” لمح رعشة ورعدة تغشاه، من قدميه حتى قفاه، حتى غاب عن ناظري المواطن في الزحام وبين خلق كثير تاه.
*محام بهيئة المحامين ببني ملال
بني ملال في: 2024/09/15