– هيئة التحرير –
مع حلول الساعات الأولى لصباح اليوم، تكون جريدة ملفات تادلة الورقية، قد ألقت خطواتها الأولى في بحر سنتها الثالثة والعشرين، إنها الآن على الأرجح بعمر شاب نال شهادة الإجازة من إحدى جامعات البلاد. ومثلما ولد الشاب، الذي يخطو معها الخطوة الأولى في سنتهما الثالثة والعشرين، من رحم حب بالضرورة، ولدت ملفات تادلة هي الأخرى من حب أسمى، ولدت من فكرة اسمها حب الوطن. وبينما ولد بين ذراعين تحنوان عليه، كانت منذ لحظة الميلاد تحنو على الوطن.
لقد اجتمع نفر من مثقفي المدينة ذات يوم من خريف سنة 1991، وخطوا السطور الأولى لافتتاحيتها التي استمرت بفضل قيم التطوع والتضامن تكتب إلى هذا اليوم، حينها كان المغرب قد فتح لتوه زنازين معتقل تازممارت الذي طالما أنكره الحسن الثاني، حيث لم يكن قد مضى على خروج معتقلي ذاك القبر الرهيب إلى النور سوى أسابيع، ومعه خرجت الفكرة في تأسيس أول منبر جهوي في المغرب إلى النور، من قبر التهميش الذي كان يقسم المغرب إلى مغربين: نافع وغير نافع.
وبينما كان الشاب الذي تحدثنا عنه يخطو خطواته الأولى، كانت ملفات تادلة تتلمس سبيلها إلى القارئ، فتخطو حين يخطو وتتعثر حين يتعثر، لم يكن بينهما من فرق سوى أنه ولد بحلم ينمو بداخله، بينما ولدت بوعي شقي كان عليها أن تتحمل عواقبه من قلة إمكانيات وإكراهات في النشر والتوزيع وحرص جيوش الظلام وفيالق السخرة والانتهاز وجحافل التيئيس على اجتثاث الأمل والإجهاز على كل طموح، لكنها رغم كل هذا استطاعت أن تواصل مثلما واصل قريننا، أن تكابد لتستمر مثلما كابد ليدرس، أن تكافح كي تجد لها مكانا في الأكشاك بين صحف كانت تغدق عليها الدولة أموالا طائلة لتروج خطابها (قولوا العام زين)، مثلما كافح في مدراس مكتظة لينافس أقرانا له يتلقون دروسهم على مقاعد مريحة.
لقد عايشت ملفات تادلة تحولات أساسية في مغرب نهاية القرن العشرين، من مذكرات أحزاب الكتلة لإصلاح الدستور، مرورا بمفاوضات ملك البلاد حينها مع مكونات الكتلة. عاصرت استفتاءات أثارت كثيرا من الجدل وشقت أحزابا ديمقراطية نصفين، وأمام أعينها كتب قانون الصحافة ومرت أحصنة مسرعة نحو تجربة التناوب التوافقي، وانكسرت أحلام وانفجرت “دار اسبانيا”.
كما عاصرت ملفات تادلة الهزات الكبرى في الحريات، فقد شهدت اعتقال صحافيين وسياسيين في الوقت الذي كانت الدولة ترفع عقيرتها بصون الحريات وحقوق الإنسان. كما واكبت عن كثب معركتين أساسيتين على مستوى الجهة، معركة الإضراب الطويل عن الطعام للمعطلين الذين مازال بعضهم ينتظر إلى اليوم تنفيذ وعد ولاية الجهة بتشغيله دون جدوى، ومعركة اعتقال أعضاء التنسيقية الجهوية لمحاربة الغلاء ولمساندة معتقلي فاتح ماي وعلى رأسهم الفقيد محمد بوكرين، وكان عليها في بعض اللحظات أن تؤدي ثمن تشبثها بحلم مغرب واحد لكل أبنائه، مغرب الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان (متابعة على اثر نشر ملف ضحايا أفورار وقضية ادعاء بعض الأشخاص يتهم الجريدة بالإشادة بالإرهاب).
واليوم، وقد حصل صاحبنا إجازته بعد كد وكفاح، أطلقت ملفات تادلة موقعها الإلكتروني، لترسخ امتدادها الوطني والدولي، مواكبة للتطور وتلبية لانتظارات قطاع واسع من قرائها الذين انتشر بعضهم في أنحاء العالم ولازالوا ينتظرون بشغف جريدتهم عبر البريد.
إننا في ملفات تادلة الإلكترونية، ونحن نحمل على صدرونا تضحيات سنوات عسيرة لطاقم الجريدة الورقية كأوسمة غالية، ونعلن تقديرنا لرجلين كانا أهم من حافظ على استمرارها، مديرها الأستاذ محمد الحجام، ورئيس تحريرها الأستاذ حسن الإسماعيلي، نؤكد أننا وقد حصل صاحبنا إجازته، ومثلما يكافح الآن لكيلا يظل حبيس الانتظار والعطالة، وبينما هو على الأرجح انضم لإحدى الجمعيات المناضلة ضد البطالة، فإننا ننضم للأصوات المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة، ونكافح لكيلا نصاب بالعطالة، العطالة التي تعني تزوير الحقائق، وترويج خطاب يخفي حقيقة المغرب العميق الذي جاءت ملفات تادلة من دروبه وحاراته المهمشة.
لقد كابدت ملفات تادلة الورقية لكي تستمر، في ظل وضع سياسي متقلب وملغوم، كما على موقعها الإلكتروني أن يكابد ليستمر في وضع أشد تلغيما، وقد كنا كتبنا كلمتنا الأولى عن وعي وإدراك عميق للحظة الراهنة، ومما جاء فيها: “بعد كل هذا، ما الذي يمكن أن نقوله لقرائنا؟ أننا عصيون على الترويض؟ ستكون هذه مجرد جملة إنشائية ما لم يترجم عملنا حرصنا على التزام المهنية في نقل الخبر، والموضوعية في تحليله، والانحياز التام لمبادئ حقوق الإنسان وقيم العدالة والحداثة والديمقراطية في التعاطي معه. سيكون عملنا فارغا من أي مضمون إن لم نعمل على المساهمة في بناء مغرب حداثي ديمقراطي ومستقل، يعيش فيه أبناؤه بكرامة وحرية. وسيكون عملنا مبتورا إن لم ننتصر للحق في الوصول إلى المعلومة ونشرها بعيدا عن أي قيد أو شرط أو قبول لابتزاز أو خضوع لضغط. سيكون وجودنا كعدمه إن لم نضع الحق فوق أي قانون”.
لقد تركنا جملا مضمرة بين السطور قدرنا أن قراءنا قرأوها بتأن، وأدركوا بذلك أننا نسير في حقل ألغام توشك أن تنفجر كل حين في وجوهنا، فتبتر أحد أطرافنا أو تردينا حتى، إننا نسير بين ألغام مزروعة في مشروع قانون الصحافة الإلكترونية، وعبوات معدة للانفجار في القانون الجنائي، وسيارات مفخخة في قانون الإرهاب، ورغم هذا لا نجد خيارا سوى السير في هذا الدرب الذي مهدته تضحيات جسيمة، ولن يهم أن نسير بأعين مفتوحة أو مغمضة، الأهم هو أننا نسير بوعي وعن سبق إصرار وترصد.