تأملات في مفاهيم الهجرة والسفر والترحال ..

-ملفات تادلة 24-

“هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه “.           أبوحيان التوحيدي.

   ينطلق الناقد الفرنسي Pierre Bayard في كتابه الذي أصدره سنة 2007 تحت عنوان : “كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟”. ثم أصدر كتابا آخر ينسجم مع الأول في بعده، ولا يخلو من غرابة وقيمة إبداعية سنة 2012 تحت عنوان “كيف نتحدث عن أمكنة، لم نزرها من قبل؟ «بالطبع من حق القارئ أن يتساءل عن قيمة ومصداقية وواقعية هذا الموقف المتضمن في الكتابين وما يطرحه هذا الناقد من أفكار. نتساءل معه : ما قيمة الحديث عن كتب لم نقرأها والكتابة عن أمكنة قصية وبعيدة ،من دون أن يراها الكاتب ودون أن يهجر مكانه أو موطنه الأصلي؟ ينطلق صاحب هذا الموقف في مقدمة كتابه، من أن” لا شيء، في الواقع، يقول إن السفر هو أفضل وسيلة لاكتشاف مدينة أو بلد لا نعرفه. و_ بالعكس _ كل المؤشرات تدفعنا إلى التفكير في أن أفضل وسيلة، للحديث عن مكان ما، هي أن تلازم بيتك، وتجربة العديد من الكتاب موجودة من أجل تعزيز هذا الإحساس”. فماذا يريد هذا الناقد قوله ؟ في نظره، لا تتعلق المسألة بمعرفة ما توفره المعرفة بأمكنة غريبة، فزيارتها لا يمكن إلا أن تفيد كل صاحب فكر منفتح، بل إن المسألة هي أن نعرف ما إذا كان من الضروري أن تقوم بهذه الزيارة، بطريقة مباشرة، أو أن الأفضل هو أن نمارسها من خلال أشكال أخرى غير التنقل الفيزيقي إلى المكان عينه. ولعل الكتاب المشار إليه أعلاه مكرس لهذا النوع من الناس أو الكتاب الذين يكتبون تحديدا والذين يسميهم P.Bayard :”المسافر الملازم لبيته voyageur  casanier” ، فالأمر في نظره يتعلق بكتاب أوتوبيوغرافيين وصفوا أمكنة بطريقة دقيقة جدا أمكنة دون أن يسافروا إليها أبدا في حياتهم؛ وبطريقة أفضل من أولئك الذين قاموا بزيارتها ، فبفضل قوة  كتابتهم ،نجحوا في أن يجعلوا تلك الأمكنة أكثر حضورا مما قد يقوم به من يرى أن من الضروري الانتقال إلى تلك الأمكنة!!.وهذا ماكان يعنيه الكاتب الصيني “لاوتسو”Lao Tseu حين قال: “من غير أن نسافر بعيدا، نستطيع أن نعرف العالم كله”.نجد نفس المعنى وبشكل آخر عند الكاتب الفرنسي جيل دولوز Gilles Deleuze حين يقول بشكل واضح: ” تسألني ما إذا كنت لا أتحرك ، ولا أسافر.لدي،مثل الجميع “أسفاري” التي تتراوح مكانه، التي لا يمكنني أن أقيسها إلا بما تثيره في من انفعالات ،فأعبر عنها بأكثر الطرق إلا ودورنا في ما أكتبه”. لكن لماذا التأكيد على أهمية الهجرة والسفر والترحال.. بالنسبة للبعض الآخر؟ وفي نفس الوقت هل مازال بإمكاننا أن نخلد إلى الوحدة ؟ ونتواصل أيضا مع الآخرين ومع العالم في نفس الوقت كما تذهب الى ذلك حنة آرندت Hannah Ardent؟ وهل مازلنا لم نعد نقوى على تحدي الافتراضي واستعادة الواقع .؟.

لا ينتظر الإنسان المعاصر اليوم العطل كي يسافر..أو يهاجر أو يرحل. فالعالم لا ينفك يعج حركة وتنقلا أمامه. فالجميع يسافر ويهاجر ويتنقل الآن..وأهداف التنقل بطبيعة الحال ليست هي نفسها على الدوام. هناك من يسافر أو يهاجر إلى مكان ما كما يقال قصد “الراحة والاستحمام”، وهناك من يتنقل “قصد البحث عن آباء جدد” ،وهناك من يهاجر بهدف ” الانفصال والقطيعة” ،رغم أن هذا التنقل أو الهجرة غالبا ما يكون انفصالا ،وإنما ،و لكن على حد تعبير “جيل دولوز” انفصالا “بثمن بخس”، مهما كانت تكلفته المادية. رغم هذه العدالة الحركية الظاهرة، فإن باستطاعتنا أن نميز بين أشكال متدرجة من التنقل: هناك أولا من يسافر رغبة في السفر، ثم هناك من لا اختيار له غير الهجرة، هناك السائح بالرغم من أنفه. هناك من يسافر ليحترق بأشعة الشمس، وهناك من يحترق وهو مازال في طريق السفر. وعلى عكس الأهداف المعنوية التي يتوخاها المتنقل السائح، والتي تتدرج من مجرد الحق عن الراحة إلى “البحث عن آباء جدد”.. فإن أهداف المهاجر لا ترتفع إلى هذا المستوى المعنوي لتظل سعيا وراء القوت اليومي. ورغم ذلك فإن السائح غالبا. ما يدرك عند نهاية طوافه أن استبدال الأمكنة، والإطلالة على ثقافات أخرى لا يكفي وحدهما لتحقيق انفصال فعلي. التاريخ يشهد أنها تجارب نادرة تلك التي تمكن فيها بعض من هاجروا أوطانهم من “اكتشاف آباء جدد “، وتحويل رحلاتهم إلى “هجرة حقيقية”. لعل هذا هو ما يدركه صنف ثالث من “المنتقلين” الذين لا يكتبون بهذا الانفصال الوهمي، والذين يرحلون بالضبط تشبتا بأراضيهم. هنا يعد الترحال تحديدا للمكان وليس هروبا منه. هذه حال الرحل الذين يتنقلون تشبتا بأرضهم، مقاومة اسمها. إنهم يتنقلون لأنهم ينشدون إلى فضاءاتهم ويرتبطون بها. بهذا المعنى قلت حال صراع من أجل الاستقرار، إنه نشدان للغربة فيما هو مألوف وتكريس للإنفصال فيما هو متصل. بفضله تعد الحركة استقرارا، والانفصال وصلا، والاغتراب ألفة، والتنقل إقامة، والهجرة عمارة ..وكأن جيل دولوز يدعونا أن نهاجر دون أن نبرح مكاننا..والحقيقة أنه لا يطالب منا أن نهاجر، مادام يميز بين الهجرة والترحال. فالرحل عنده ليسوا هم المهاجرين.” فالرحال ليس بالضرورة هو من يتحرك، إذ أن هناك انتقالا يبرح مكانه، انتقالا في القوة والشدة “.لا أحد في نظر دولوز أكثر تعلقا بموطنه من الرحال، لأنه لا يفتأ يتحايل كي لا يهاجر.إنه لا يرتحل إلا رغبة في عدم مغادرة موقعه، لا يرتحل إلا انشدادا إلى موطنه وتعلقا به. إلا أنه يعلم أن الانشداد إلى الموطن ليس هبة تعطى، وإنما هو عناء وجهد وصبر ومقاومة..الرحال يتحدى المكان ولا يعطيه ظهره، إنه لا “يولي ظهره هاربا” .فهو لا يدبر إلا لكي يقبل. ولا يبتعد إلا في محل قربه. إنه لا ينفصل إلا وصلا واتصالا .يدرك الرحال أن أضمن السبل إلى العمارة والعمران هو التنقل، وأحسن وسيلة الاقتراب هي الابتعاد، وأنجع طريق التملك هي الفقدان ،وأضمن  طريق إلى التشبت بالهوية هو الاختلاف، أنجح كيفية الارتباط والوصل هو القطيعة والانفصال، وأقوى الحركات شدة هي الحركات الساكنة ..ولعل جيل دولوز Gilles Deleuze وصفت فلسفته بفلسفة بداوة وترحال وبفيلسوف الجذمور مع فيليكس التاريخ ..إذ نجد دولوز يعرف الفيلسوف بالرحالة الذي يرحل باستمرار عن موطنه الأصلي الذي هو عبارة عن “بيداء شاسعة”..لقد سئم المفاهيم المنحوتة عبر تاريخ الفلسفة الطويل والأمكنة المظلمة ..وعليه أن لا يكف عن الترحال والهجرة نحو مناطق خصبة يمكن للمفاهيم فيها أن تزدهر كما هو الشأن بالنسبة للبدوي الذي يبحث عن الماء والكلأ لحيواناته.. إن دولوز هنا ينحث مفهوم الفيلسوف كصديق للمفهوم ..لم يكن هذا موقف المفكرين الغربيين المتأمل للمفاهيم، بل نجد هذا المسعى في كتابات الفلاسفة العرب الذين عالجوا مفاهيم الهجرة والترحال والسفر..، وما يرتبط بها من مواقف في الحياة والكتابة..بشكل لافت للنظر. ولعل أهمهم حال “الشيخ الأكبر”  محيي الدين ابن عربي ، نلمس عنده ذلك التنقل النفسي/الروحي الفلسفي في كتاباته ونحثه للمفاهيم التي تكتسب دلالات أخرى مغايرة ..فما يحرك فكره وحياته هو التناقض، فلا يجد حرجا في إثبات الفكرة ونقيضها، ولا في التنقل من مذهب إلى آخر. ذلك ما نلمسه في قوله: ” لا يصح الثبوت على أمر واحد في الوجود”. وإن ” التجلي المتكرر في الصورة الواحدة لا يعول عليه”. فالسمة التي تطبع فكر ابن عربي هي الحركة والترحل.. يقول : ” فما ثمة يكون أصلا، بل الحركة دائمة في الدنيا ليلا ونهارا، ويتعاقبان فتتعاقب الأفكار والحالات والهيئات بتعاقبهما”. وقد سعى ابن عربي هذا الفيلسوف/المتصوف والمهاجر والمترحل الدائم، دوما إلى الاحتكاك بالآخر..إذ كما تذكر المراجع الموثقة أنه غادر موطنه بالأندلس حتى خاض في ترحل لا يتوقف، إذ منها انتقل إلى مراكش فإلى مصر وفلسطين، ثم إلى مكة فالموصل فالقاهرة فتركيا إلى أن استقر بدمشق.. تجربته “التائهة/المتوقدة ” طبعها الانفتاح على الحياة وعلى الآخرين والإصغاء لجميع المعتقدات والأديان ..استطاع أن يجعل من شتات عناصر فكره جميعها وحدة مراكز وهوامش في الوقت ذاته. يقول: ” الأحوال في سفر أبدا من وقت نشأتنا ونشأة أصولنا إلى ما لا نهاية له، وإذا لاح لك منزل تقول فيه هذا هو الغاية انفتح عليك منه طرائق أخر، تزودت منه وانصرفت. فما من منزل تشرف عليه إلا ويمكن أن تقول هو غايتي، ثم أنك إذا وصلت إليه لم تلبث أن تخرج عنه راحلا”. قد يلتقي أو يتقاطع جيل دولوز وابن عربي في مفهومهما للترحل وقد يختلفان في أحوال أخرى ..لكنهما يبرزان دور الحالة النفسية والمعنوية العميقة في الحديث عن الأمكنة والأزمنة..وكلاهما ينشدون حالة (بين _ بين) ..ذلك أن الترحال أو الهجرة أو السفر ليس خروجا وتيهانا وتنقلا سهلا يجر صاحبه إلى أن يسبح في فراغ لانهائي. وهو ليس رفضا لكل تجذر، ودفعا لكل وحدة، وإنكارا لكل هوية . إنه خروج داخلي، وانفصال مرتبط ، وتأصيل متجدد، وتشتت موحد واختلاف متطابق..إنه كما يقال “سكون بخطى كبيرة”. يعرف الرحال أن موته في توقفه عن المقاومة وتخليه عن التحدي. إنه ما ينفك يتجنب الاستقرار البليد، والاستيطان الخامل، والتعلق الرخيص بالمكان، يؤمن أنه” لا يملك إلا “المسافات التي تبعده”. لا يركب فيلسوف الترحال normadisme هذا المركب الصعب إلا تفاديا لما يدعوه “الانفصال الكاذب”، والانفصال “بثمن بخس”، وهو لا يستبعد الحركة الهوجاء إلا بحثا عن “الكثافات الساكنة”.

إحالات مرجعية وتوضيحات مدعمة :

_ انظر مقالتنا “هجرة المفاهيم والأفكار” التهامي ياسين ملفات تادلة العدد 480 /15 يناير 2022

_ حسن المودن الأدب والتحليل النفسي. كتاب الدوحة 2019.

_ Pierre Bayard: comment parler des lieux ou l’on n’a pas été,Minuit,2012

_ عبد السلام بنعبد العالي “الفلسفة، فنا للعيش”. “وفي الانفصال” دار توبقال للنشر ..




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...